صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة ترجمان كتاب الطريق إلى اللاحرية: روسيا وأوروبا وأميركا لتيموثي سنايدر، من ترجمة هيثم رشيد فرحت، ومراجعة باسم سرحان. يقع الكتاب في 416 صفحة، ويشتمل على قائمة ببليوغرافية وفهرس عام.
يقدّم الكتاب تحليلًا للتاريخ الروسي فالأميركي، مرورًا بالأوكراني والأوروبي، باعتباره تشريحًا للمشكلات السياسية الراهنة؛ حيث تناول عودة الفكر التوتاليتاري وانهيار السياسة الديمقراطية في روسيا، وتهجّمها على الاتحاد الأوروبي، والثورة في أوكرانيا، والغزو الروسي، وانتشار الخيال السياسي في روسيا وأوروبا وأميركا، وانتخاب دونالد ترامب.
يضمّ الكتاب بين دفّتيه ستة فصول تتناول الأفكار التي تؤدّي إلى اللاحرية، انطلاقًا من تأويل فكرة السياسة الحتمية القائمة على غياب الطروحات؛ إذ إن قبول هذا الأمر يعني إنكار المسؤولية الفردية عن مواكبة التاريخ والتغيير، معرّجًا على مبدأ تداول السلطة باعتباره الآلية التي تُولِّد الدولُ العمليةُ بموجبها إحساسًا لمواطنيها بالاستمرارية وعدم الإخفاق، وطارحًا على الأوروبيين السؤال المحوري، حيث انتهى عهد الهيمنة الأوروبية: ماذا بعد الإمبراطورية؟ معتبرًا أن إنشاء الاتحاد الأوروبي وتوسعه الإجابة البدهية عنه؛ إذ إنه يحقّق التكامل بين دوله الوطنية التي تعلّمت الدرس من الحرب، ما جعل الأوروبيين يتخلصون من محاولات إقامة إمبراطوريات ضمن أوروبا، في مسعى لعقلنة "خرافة الوطن الحكيم". ثم يحلل الكتاب البروباغندا الروسية أثناء غزو جنوب أوكرانيا في عام 2015، المعتمدة على مستويين: التهجّم على الواقعية والتبرُّؤ من المُسَلّمات ومن الحرب أيضًا، وإعلان براءة روسيا من أيّ ظلم.
بين الفردانية والتوتاليتارية
ارتبطت الأوليغارشية التي نشأت في الاتحاد الروسي بعد عام 1991 إلى حد بعيد بمركزية الإنتاج في ظل الشيوعية، وبأفكار الاقتصاديين الروس في ما بعد، وبجشع القادة الروس. وأسهمت الحكمة الأميركية التقليدية في الكارثة بافتراض أن الأسواق ستخلق المؤسسات، بدلًا من التأكيد لضرورة المؤسسات بالنسبة إلى الأسواق.
في القرن الحادي والعشرين، اتضح أنه من الأسهل إلقاء اللوم على الغرب، بدلًا من التعامل بحذر مع الخيارات الروسية. فقد كان القادة الروس الذين نحوا باللائمة في العقد الأول من الألفية الثالثة هم الأفراد عينهم الذين سرقوا الثروة الوطنية. كما كان من نادوا بأفكار إيفان إلين من قمم الدولة الروسية المستفيدين من صنعة الرأسمالية في روسيا وليسوا من ضحاياها. وقد ضمِن الناس في حاشية فلاديمير بوتين غياب حكم القانون في روسيا، لأنهم هم من أوجدوا احتكار الدولة للفساد وانتفعوا منه. وسوغت أفكار إلين اللامساواة الراديكالية في الوطن، وغيّرت موضوع السياسة من الإصلاح إلى البراءة، بينما حددت الغرب مصدرًا دائمًا لخطر روحي.
لا يمكن بناء أيّ دولة روسية على مفهومات إلين، لكنها ساعدت اللصوص على طرح أنفسهم بوصفهم مخلّصين، ومكنت زعماءَ جددًا من اختيار الأعداء، ومن ثم خلق مشكلات خيالية عصية على الحل، مثل العداء الدائم لغرب منحطّ. وكان مفهوم الخصومة الأبدية مع أوروبا وأميركا، لأنهما حسدتا ثقافة روسيا الفطرية، خيالًا صرفًا ولّد سياسة حقيقية؛ أي السعي لتحطيم المكتسبات في الخارج التي لم يستطع زعماء روسيا إدارتها في الداخل.
لا يمكن أن تجعل سياسةُ الأبدية بوتين أو أيَّ إنسان آخر خالدًا، غير أنه في إمكانها جعل الأفكار الأخرى غير واردة، وهذا ما تعنيه الأبدية؛ أي الأمر ذاته مرارًا وتكرارًا، وسأمًا يثير المؤمنين نظرًا إلى الوهم الذي يعدّونه خاصتهم على وجه الخصوص. وبطبيعة الحال، إن هذا المعنى المرتبط إما بـ "نحن وهم"، وإما، كما يفضّل الفاشيون، "أصدقاء وأعداء" هو أقل التجارب الإنسانية نوعية لأن العيش في كنفه يعني التضحية بالفردية.
إن التاريخ، كما يراه ويعيشه الأفراد، هو الأمر الوحيد الذي يتوسط الحتمية والأبدية. وإذا ما استوعبنا الأبدية والحتمية بوصفهما فكرتين ضمن تاريخنا الذاتي، فقد نفهم ما حل بنا، وما يمكن أن نفعل حياله. إننا لا نفهم التوتاليتارية بوصفها خطرًا على المؤسسات فحسب، بل على أنفسنا أيضًا. في عنف هجومها البالغ، تبيّن أفكار إلين الفردانية، بوصفها فضيلة سياسية؛ أي المرء الذي يساعد الآخرين جميعًا. هل نحن أفراد نرصد وجود أشياء خيّرة كثيرة، وأن السياسة تنطوي على اهتمام وخيار مسؤول بدلًا من رؤيا كلية؟ وهل نستوعب وجود أفراد آخرين في العالم يعملون على المشروع ذاته؟ وهل ندرك أنه مطلوب منا، نحن الأفراد، تأملًا مستمرًا لواقع لا نهاية له، أي انتقاءً ثابتًا من بين عواطف كثيرة لا يمكن اختزالها؟ تصبح فضيلة الفردانية واضحة في مخاض ولادة لحظتنا، غير أنها لن تصمد وتستمر، إلا إذا رأينا التاريخ وأنفسنا ضمنها، وقبِلنا نصيبنا من المسؤولية.
بين المساواة والأوليغارشية
إن منطق الشعبوية - السادية الانتخابية يعني قَصر التصويت على من ينتفعون من اللامساواة ويحبّذون الألم وحرمان من يرتجون إقرار الحكومة بالمساواة والإصلاح من التصويت. فاستهل ترامب إدارته بتعيين لجنة قمع الناخبين مزودة بتفويض تستبعد بموجبه الناخبين من الانتخابات الاتحادية. وبناء عليه، بات واضحًا إمكان تشكيل أغلبية مصطنعة على المستوى الاتحادي في المستقبل، كما هي الحال في بعض الولايات مسبقًا. فلولا عمل هذه اللجان على مستوى الولاية، لكان فوز ترامب في عام 2016 أصعب. على ما يبدو، عقدت الآمال على إجراء انتخابات مستقبلية في ظل ظروف أكثر تقييدًا، وبناخبين أقل دائمًا. وقد تمثّل السيناريو المظلم بالنسبة إلى الديمقراطية الأميركية في الربط الوارد بين عمل مروع ما - ربما متعلق بإرهاب محلي - وانتخاب أُجري في ظل حالة طوارئ؛ الأمر الذي يحدّ من حق التصويت بدرجة كبيرة. فغير مرة، كان ترامب يفكر في استلهام "حدث بارز" كهذا.
كانت الرئاسة الإغراءَ الذي عرضته روسيا على ترامب. أما الإغواء الذي عرضه ترامب على الجمهوريين، فتمثّل في دولة الحزب الواحد؛ أي حكومة من خلال انتخابات مزورة، بدلًا من التنافس السياسي، وأوليغارشية عنصرية تكمن مهمة الزعماء بموجبها في جلب الألم، بدلًا من الرفاه، والتعبير عن المشاعر من أجل فئة ما، بدلًا من العمل من أجل الجميع. وإذا كانت زيادة اللامساواة إلى الحد الأقصى وقمع الأصوات هما ما فعلته الحكومة الاتحادية كلها، فقد يتم تجاوز الخط في مرحلة ما. فالأميركيون، شأنهم شأن الروس، قد يتوقفون عن الاعتقاد بانتخاباتهم الذاتية في نهاية المطاف. وبناء عليه، ستقع الولايات المتحدة، شأنها شأن الاتحاد الروسي، في أزمة تداول سلطة دائمة بغياب طريقة مشروعة لاختيار الزعماء. وهذا سيُعَدّ انتصارًا للسياسة الخارجية الروسية في العقد الأول من الألفية الثالثة؛ أي تصدير مشكلات روسيا إلى أعدائها المنتقين وتطبيع متلازمات روسيا بالعدوى.
إن السياسة دولية، لكن يجب على الإصلاح أن يكون محليًا. فبالنسبة إلى الأميركيين، تبدو الحملة الانتخابية الرئاسية في عام 2016، وسيرة دونالد ترامب الذاتية، والمصالح التجارية المغفلة، والمشتريات العقارية المغفلة، وهيمنة أخبار الإنترنت، وخاصيات الدستور، واللامساواة الاقتصادية الصاعقة، وتاريخ العرق المؤلم، أشبه بقضية وطن مميز وتاريخه الاستثنائي كله. فأغوت سياسة الحتمية الأميركيين للاعتقاد بأنه يجب على العالم أن يشبه الولايات المتحدة، وبناء عليه أن يكون ودودًا وديمقراطيًا، لكن لم يكن الأمر على هذه الحال. في الواقع، أخذت الولايات المتحدة ذاتها تصبح أقل ديمقراطية في العقد الأول من الألفية الثالثة، وكانت روسيا تعمل على تسريع هذه النزعة. فكانت طرائق الحكم الروسية تستجدي أوليغارشيي أميركا المُدَعين. فكما هي الحال في روسيا، كان مكمن الخطورة في أن الأفكار الفاشية ستوطد الأوليغارشية.
علينا أن نرى أنفسنا كما نحن عليه - ليس في مسار استثنائي ما، بل في تاريخ بمحاذاة الآخرين - من أجل وضع حد لسحر الحتمية. وعلينا معالجة مشكلاتنا الخاصة بدءًا باللامساواة وبالسياسة العامة الملائمة من أجل تفادي إغراء الأبدية. ستمتلك أميركا شكلين من المساواة - عرقية واقتصادية - أو لن تمتلك أيًّا منهما. إذا لم تمتلك أيًّا منهما، فستسود سياسة الأبدية وتبرز الأوليغارشية العنصرية وستنتهي الديمقراطية الأميركية.