صدر ضمن سلسلة ترجمان التي تشرف عليها وحدة ترجمة الكتب في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الحرب الأهلية الإسبانية A Short History of the Spanish Civil War (304 صفحات من القطع الكبير) للمؤرخ خوليان كازانوفا، وقد ترجمه إلى اللغة العربية عمر سليم التل.
في هذا الكتاب، يشرح كازانوفا جذور الحرب الإسبانية، ويضعها في سياق أوروبي تميز بالتغيير القارّي المتشنج والممتد من الحرب العالمية الأولى، إلى الحرب العالمية الثانية. ويوضح كيف خلّفت "حرب الأيام الألف" ندوبًا طويلة الأمد وعميقة الغور في المجتمع الإسباني.
لماذا؟
في مقدمة الكتاب - وعنوانها "جذور الصراع" - يعرض كازانوفا أسباب الحرب الأهلية الإسبانية، ويحاول الإجابة عن سؤال مهم: لماذا نشبت حرب أهلية في إسبانيا؟ فيقول: "حدثت الحرب الأهلية لأن الانقلاب العسكري أخفق منذ البداية في تحقيق هدفه الأساس، المتمثل في الاستيلاء على السلطة وقلب نظام الحكم الجمهوري، ولأن، على عكس الحوادث في الجمهوريات الأخرى في ذلك الوقت، كانت ثمة مقاومة واسعة النطاق تتصدى لأي محاولة تسعى إلى فرض نسق سلطوي. فلو لم تكن هناك هذه التوليفة من الانقلاب العسكري وانقسام القوات المسلحة والمقاومة، لما وقعت حرب أهلية". والانقلاب هنا هو المعارضة المسلحة التي أعلنتها مجموعة من قادة القوات المسلحة الجمهورية الإسبانية، بقيادة إميليو مولا، ضد الحكومة اليسارية المنتخبة في الجمهورية الإسبانية الثانية، في عهد مانويل أثانيا.
وبعد المقدمة، يقدم كازانوفا تسلسلًا زمنيًا للحرب الإسبانية، من فوز الجمهوريين بالانتخابات في عام 1931، حتى آخر الحرب في نيسان/ أبريل 1939.
إسبانياتان
في الفصل الأول "إسبانيا منقسمة نصفين"، يبين كازانوفا إخفاق التمرد العسكري في الاستيلاء على السلطة وإطاحة الجمهورية؛ ما قسم إسبانيا قسمين، "فلاقى التمرد نجاحًا في كل شمال وشمال غرب إسبانيا: غاليسيا وليون وقشتالة القديمة وأوفييدو وألافا ونافار وعواصم أراغون الثلاث، وجزر الكناري وجزر البليار، باستثناء مينوركا، ومناطق واسعة من إكستريمادورا والأندلس، بما في ذلك مدن كاسيريس وقادس وإشبيلية وقرطبة وغرناطة وهويلفا. أما المنطقة الجمهورية فكانت تشمل المدن الرئيسة ومراكز الصناعة والتعدين الرئيسة، كاتالونيا وإقليم الباسك وأستورياس، ومقار الشركات والبنوك الرائدة. وكانت الغلبة المالية للجمهورية واضحة جدًا في البداية؛ إذ كانت تسيطر على مصرف إسبانيا واحتياطياته من الذهب، البالغة نحو 700 طن، في حين كانت الأراضي التي تسيطر عليها تدير نحو 70 في المئة من ميزانية الدولة". كان الجنرال فرانسيسكو فرانكو، حاكم إسبانيا في ما بعد، أحد المتمردين، وتلقى الدعم من موسوليني إيطاليا، وهتلر ألمانيا.
حملة صليبية!
في الفصل الثاني "الحرب المقدسة والكراهية المعادية لرجال الدين"، يرى كازانوفا استحالة التغاضي عن البعد الديني للحرب الأهلية الإسبانية. يقول: "كانت حربًا عادلة ومقدسة في أحد المعسكرين، وغضبًا عارمًا لا يرحم انفلت من عقاله ضد رجال الدين في المعسكر الآخر، الأمر الذي خلّف ندوبًا كبيرة في ذاكرة الشعب الإسباني".
في ذروة القرن العشرين، كانت إسبانيا رمزًا للمجتمع ذي الدين الواحد المهيمن والمتماسك (الكاثوليكية) الذي يوجهه ويتبعه الناس والأساقفة والرهبانيات والعامة، معتبرين أنه لا يمكن التخلي عن الحفاظ الشامل على النظام الاجتماعي، في ضوء العلاقة الوثيقة بين النظام والدين. ثم كانت الحركة المناهضة للإكليروس، التي دخلت القرن العشرين في راديكالية شديدة؛ إذ انضم إليها العمال المتشددون، بعدما ضمت مثقفين ليبراليين ويساريين بورجوازيين أرادوا الحد من سلطة رجال الدين في الدولة والمجتمع. اتسعت الفجوة بين هذين العالمين من جراء إعلان قيام الجمهورية الثانية، ووصف رجال الدين هذه الحرب بالحملة الصليبية، في حين كان وراء القوميين تحالف رجعي سلطوي أراد الاستيلاء على السلطة بالجيش، والدفاع عن مُلّاك الأراضي.
حروب الآخرين
يقول كازانوفا في الفصل الثالث "حرب دولية على الأرض الإسبانية"، إن فرنسا عرضت على بريطانيا وإيطاليا وألمانيا في آب/ أغسطس 1936 اتفاقًا قضى بعدم التدخل في الشؤون الإسبانية. وأعلنت واشنطن الامتناع الصارم عن أي تدخل في الوضع "المؤسف" في إسبانيا. واشتركت جميع الحكومات الأوروبية رسميًا في الاتفاق، وبينها الاتحاد السوفياتي.
على الرغم من ذلك، خالف هتلر وموسوليني والدكتاتور البرتغالي أوليفيرا سالازار التزامهم الاتفاق بانتظام، وواصلوا إرسال الأسلحة والذخائر والدعم اللوجيستي إلى فرانكو، فانتاب جوزف ستالين القلق لأن هزيمة الجمهورية في إسبانيا تعني تنامي قوة النازية والفاشية، وهذا خطر على الاتحاد السوفياتي. أبلغ ستالين لجنة عدم التدخل نيته خرق الاتفاق إذا واصلت ألمانيا وإيطاليا انتهاكه، وبدأ في تشرين الأول/ أكتوبر تدفق السلاح إلى إسبانيا من كل الأطراف الأوروبية، فتدوّلت الأزمة الإسبانية.
ثورة اجتماعية
في الفصل الرابع "الجمهورية في حرب"، يسهب المؤلف في وصف تفصيلات المعارك على الجبهات في إسبانيا، والمجازر التي حصلت في المعسكرين. يقول إن انتفاضة تموز/ يوليو 1936 العسكرية أجبرت الحكومة الديمقراطية الدستورية على المشاركة في حرب لم تبدأها، "وتبع هذا الانقلاب العسكري ثورة اجتماعية عجزت الدولة الجمهورية عن الحيلولة دونها، نظرًا إلى فقدانها جزءًا كبيرًا من قوتها وسيادتها. وبدأت تلك العملية الثورية فجأة، وبعنف، وكانت تستهدف تدمير مواقع الطبقات صاحبة الامتيازات، الكنيسة والجيش والأغنياء، فض عن تدمير الهيئات الجمهورية التي كانت تحاول الحفاظ على الشرعية".
وبحسب كازانوفا، "انتهى الأمر بالانقلاب العسكري المناهض للثورة إلى إطلاق ثورة أخرى، مع أنه كان ينوي وقفها. ومن المحتمل جدًا أنه لولا ذلك الانقلاب، ولولا انهيار آليات الإكراه التابعة للدولة، لما بدأت تلك العملية الثورية أبدًا".
زمن الكاوديو
يقول المؤلف في الفصل الخامس "النظام الجديد"، إن ريح الفاشية كانت تهب عبر أوروبا، "وكانت إيطاليا وألمانيا تؤيدان فرانكو في حربه ضد الجمهورية، لكن عملية إضفاء الصبغة الفاشية هذه في إسبانيا المتمردة لم تشكك في سلطة الجيش، بل ظلت، جنبًا إلى جنب مع الكنيسة الكاثوليكية، قوة اجتماعية وثقافية مؤثرة للغاية. وبعد مضي أقل من عام على الانتفاضة العسكرية، ترسّخت دكتاتورية فرانكو الشخصية على الأسس الثلاثة التي ارتكز عليها حتى وفاته بعد أربعة عقود، وهي الجيش والكنيسة الكاثوليكية والحزب الواحد".
كانت النزعة العسكرتارية والفاشية والكاثوليكية مكوّنات أساسية للدولة الجديدة، وكان "الكاوديو" مُمجدًا مثل "الفوهرر" أو "الدوتشي"، مع التحية بالذراع المستقيمة والقمصان الزرق. وظهرت الشعائر والعروض الدينية في المسيرات وفي القداديس في الهواء الطلق، وفي إقامة المراسم السياسية الدينية على نمط القرون الوسطى، وأصبحت إسبانيا المتمردة إقليمًا ملائمًا لمناغمة الفاشية والتيار السلطوي الحديث مع التقاليد المجيدة.
بحسب كازانوفا، دمر هذا المفهوم الجديد للوطن الانتصارات والأحلام السياسية للمثقفين والمهنيين والقطاعات الإدارية الذين طوروا ثقافة سياسية مشتركة اتسمت بالنزعة الجمهورية، والراديكالية الديمقراطية ومناهضة الإكليروس.
ندوب طويلة الأمد
يعود المؤلف في الفصل السادس "حرب طويلة"، إلى الحديث عن مجريات الحرب الأهلية، ودور فرانكو فيها. يقول: "خلّف نحو ألف يوم من الحرب ندوبًا طويلة الأمد في المجتمع الإسباني. وكان إجمالي عدد القتلى، وفقًا للمؤرخين، نحو 600 ألف قتيل، قُتل منهم 100 ألف بفعل القمع الذي أطلقه الثوار العسكريون من عقاله، و55 ألف قتيل بسبب أعمال العنف في المنطقة الجمهورية. وكانت السجون ومعسكرات الاعتقال تكتظ بنصف مليون آخرين".
يختم كازانوف هذا الفصل بالقول إن الدكتاتوريات التي تهيمن عليها الحكومات الشمولية ذات الزعيم الواحد والحزب الواحد كانت تحل محل الديمقراطية في كثير من دول أوروبا. وباستثناء الاتحاد السوفياتي، قامت تلك الدكتاتوريات على فكرة إقرار النظام وسلطة اليمين المتطرف. واجتاح النازيون ستًا من أعرق الديمقراطيات في أوروبا في العام الذي تلا نهاية الحرب الأهلية الإسبانية، "ومن هنا، لم تكن إسبانيا استثناءً، كما لم تكن الدولة الوحيدة التي حلت فيها أفكار إقرار النظام والقومية المتطرفة محل أفكار الديمقراطية والثورة، وكان انتصار فرانكو انتصارًا لهتلر وموسوليني أيضًا، مثلما كانت هزيمة الجمهورية هزيمة للدول الديمقراطية".
غالب ومغلوب
في الخاتمة "سلام همجي"، يبين كازانوفا كيف سادت ثقافة العنف السياسي والتقسيم بين المنتصرين والمهزومين في المجتمع الإسباني عقدين في الأقل بعد انتهاء الحرب الأهلية. يقول: "كان على المهزومين الذين تمكنوا من البقاء في قيد الحياة أن يتكيفوا مع قواعد التعايش التي فرضها المنتصرون، حيث فقد كثير منهم الوظيفة، فيما اضطر آخرون، ولا سيما في المناطق الريفية، إلى الانتقال إلى مدن أو قرى جديدة. وسواء اتُّهموا أم أُدينوا، كان ناشطو الأحزاب السياسية والنقابات العمالية الجمهورية في وضع أسوأ من غيرهم. أما الذين لم يكونوا ملتزمين بقوة، وكثير منهم أميون، ففرضت عليهم الفرانكوية الصمت للبقاء أحياء، وأرغمتهم على محو هويتهم".
عُدَّ انتصار فرانكو في الحرب الأهلية انتصارًا للكاثوليكية التي عادت دين الدولة الرسمي. أُلغيت التدابير الجمهورية التي لعنها اليمين والكنيسة، واستعادت الكنيسة امتيازاتها كاملةً، وتمتعت بفترة طويلة من الازدهار، مع نظام حكم حماها وأغدق عليها الامتيازات، ودافع عن معتقداتها، وسحق خصومها.