أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية ضمن سلسلة ترجمان، وهو ترجمة نور الحريري العربية لكتاب جوديث بتلرParting Ways: Jewishness and the Critique of Zionism، والذي تحاول فيه فضح الزعم القائل إنّ كل انتقاد لإسرائيل هو معاداة للسامية، مستندةً إلى مصادر يهودية تنتقد عنف دولة إسرائيل وقهرها الاستعماري للسكان الفلسطينيين وترحيلهم وطردهم؛ بمعنى أن بتلر تحاول أن تُبيّن أن ثمة نقدًا يهوديًا أيضًا لعنف إسرائيل، وأن ثمة قيمًا يهوديةً تحكم التعايش مع غير اليهود، وهي جزء من الجوهر الخُلقي الفعلي لليهودية الشتاتية.
يتألف هذا الكتاب (384 صفحة من القطع المتوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مدخل وثمانية فصول. في مدخله، "الافتراق عن الذات والمنفى ونقد الصهيونية"، تؤكد بتلر مواجهتها عديدًا من المشكلات عند تبيانها وجود تقاليد يهودية إلزامية تُعارض عنف الدولة وأنماط الطرد والتطويق الاستعماريين. فحين تزعم أن ثمة تقليدًا يهوديًا عريقًا يؤكد أنماط العدالة والمساواة التي من شأنها أن تُفضي بالضرورة إلى نقد الدولة الإسرائيلية، تكون قد صاغت منظورًا يهوديًا غير صهيوني، بل معاديًا للصهيونية، مجازفةً حتى بتحويل مقاومة الصهيونية إلى قيمة يهودية، ومؤكدةً بذلك المصادر الأخلاقية الاستثنائية لليهودية، "لكن كي يكون نقد الصهيونية فاعلًا وأساسيًا يجب رفض ادعاء الاستثنائية هذا لمصلحة قيم ديمقراطية أكثر جوهرية".
اليهودي وغيره
في الفصل الأول، "مهمة ضرورية ومستحيلة: سعيد وليفيناس والمطلب الأخلاقي"، تقرأ بتلر في كتاب إدوارد سعيد فرويد وغير الأوروبي، فتراه يلحظ أنّ غير الأوروبي في رأي اليهودي الأشكينازي ضروري لمعنى الديانة اليهودية. وتقول إن أكثر ما يعجب سعيد في تبني فرويد لموسى بوصفه غير الأوروبي، المؤسّس المصري لليهود، "هو التحدي الذي يطرحه رمز موسى على سياسة هوياتية صارمة. في حال كان موسى يرمز إلى تطلع سياسي معاصر، فهو تطلع يرفض أن يكون مؤسّسًا بصورة حصرية على مبادئ الهوية العرقية أو الدينية أو القومية، ويقبل لانقاوة واختلاطًا محددين". ومن منطلق أن تكون يهوديًا، يعني العيش في علاقة بغير اليهودي وإيجاد طريقة لرفض الحاجز الهوياتي، ترى بتلر أنّ سعيد يقترب من الموقف الأخلاقي عند إيمانويل ليفيناس. فبينما يصرّ مارتن بوبر على هويات منفصلة متمايزة ثقافيًا، تتفدرل بوصفها حوارًا ومشروعًا تعاونيين، يفترض ليفيناس عدم تناظر العلاقة بين الفاعل والآخر؛ "ويفترض أيضًا أن هذا الآخر هو فعليًا أنا، ليس متمثَلًا بوصفه جزءًا منّي بل هو متعذر التمثّل بوصفه ذاك الذي يعطّل استمراريتي ويجعل وجود ذات مستقلة على مسافة ما من ذات مستقلة أخرى أمرًا مستحيلًا". ومن شأن موقف ليفيناس أن يُبطل فكرة بوبر حول الحوار، على الرغم مما بينهما من تناغم سطحي.
ترى بتلر في الفصل الثاني، "غير قادر على القتل: ليفيناس ضد ليفيناس"، أن اللاعنف لا يأتي، بحسب ليفيناس، من مكان سلمي، بل من توتر دائم بين الخوف من الخضوع إلى العنف والخوف من ممارسته، فالسلام نضال فاعل ضد العنف ولا يمكنه أن يكون دون العنف الذي يسعى إلى الحد منه، والسلام يسمّي هذا التوتر لكونه عملية عنفية، "ومع ذلك فهو نوع من العنف الذي يحدث باسم اللاعنف أيضًا. في الحقيقة، إن المسؤولية التي يجب أن أتحملها عن الآخر تنبثق بصورة مباشرة من تعرضي للاضطهاد والاعتداء من طرف هذا الآخر. هكذا، فإن ثمة عنفًا في العلاقة منذ البداية: إن الآخر يطالبني ضد إرادتي وإن مسؤوليتي تجاه الآخر تنشأ من هذا الإخضاع".
نقد العنف
في الفصل الثالث، "والتر بنيامين ونقد العنف"، تسعى بتلر إلى أن تفهم كيف استفاد والتر بنيامين من المصادر اليهودية وغير اليهودية في تقديمه نقدًا للعنف القانوني، ونقدًا لأشكال من التاريخ التقدمي من شأنها أن تدرك المثال مع مرور الوقت. إذ تكتب: "إن رأيه الأول يبين لنا عدم إمكانية التعامل مع القانون بوصفه بديلًا من العنف، لكن هذا يثير أيضًا مسألة أنه كيف يصبح ممكنًا رفض الأشكال غير الناقدة لطاعة الأنظمة الحكومية الظالمة. أما الرأي الثاني فيرتكز على فكرته حول كيفية معاودة المشيحاني تقديم التاريخ وتركيزه على إمكان إيجاد شكل حالي لتاريخ المظلومين، تاريخ لا ينتمي إلى أمة واحدة، بل يتطلب تبدلًا ومّاضًا للظلم عبر الزمان والمكان". وتضيف أن العنف الإلهي يُبلَغ من طريق وصية لا هي استبدادية ولا هي قسرية، ويصوِّر بنيامين الوصية بوصفها نوعًا من القانون غير الملزم أو المفروض بواسطة العنف القانوني.
أما في الفصل الرابع، "الوميض: سياسة بنيامين المشيحانية"، فتستمر بتلر في التفكّر في بنيامين، كي تفهم هذا الحق في نقد العنف علانيةً، وكي توضح أيضًا قيم التعايش والتذكر، قيم عدم طمس الآثار الحية لدمار الماضي. وتؤكد حجتها الأولى، أي إن العلاقة بغير اليهودي هي في صميم الأخلاق اليهودية، "ما يعني أنه من غير الممكن أن تكون يهوديًا من دون غير اليهودي، وكي تكون خلقيًا يجب عليك الافتراق عن اليهودية بوصفها إطارًا حصريا للأخلاق". وترفض بتلر الصيغة السارترية التي تقول إن المعادي للسامية هو من أوجد اليهودي. وتقول إن بنيامين يشير إلى ضرب غريب من الوميض يبدو أنه البزوغ أو الانبثاق المفاجئ لزمنية أخرى داخل زمنية متسمة باتساقها وتقدمها. يظهر فجأة ثم يختفي، "وفهم كيفية استمرار الماضي في دخول الحاضر يقرّبنا أكثر إلى زمن الآن المفهوم بوصفه مرميًّا بشظايا من الزمن المشيحاني".
الذات والآخرون
تقول بتلر في الفصل الخامس، "هل الديانة اليهودية صهيونية؟ أو آرندت ونقد الدولة – الأمة"، إنه في حال كان التقليد اليهودي ذو الصلة بشن انتقاد علني على عنف الدولة الإسرائيلية تقليدًا يرتكز على التعايش، كونه قاعدة للسلوك الاجتماعي، "فما ينتج ليس الحاجة إلى تأسيس وجود يهودي عام بديل أو حركة يهودية بديلة فحسب، بل الحاجة إلى تأكيد إزاحة الهوية التي تستلزمها اليهودية". أما آرندت فترى بتلر أنها لا تدافع عن اليهود فحسب، بل عن أيّ أقلية أخرى مطرودة من سكنى الأرض من طرف مجموعة أخرى، وترفض الفصل بين اليهود والأمم المزعومة الأخرى التي اضطهدتها النازية باسم تعددية متساوية في امتدادها مع حياة الإنسان في أشكالها الثقافية كلها. وحين ترفض آرندت أن تحب الشعب اليهودي، فهي ترفض صيغةً أنتجها منطق تاريخي يفصل المبدأ المجرد عن التعددية الحية للكائنات التي يدعي أنه يمثلها، "فهذه الصيغة لا يمكن أن تدعم إلا معاداة السامية ومعارضيها ذوي الآراء الخاطئة".
وفي الفصل السادس، "مآزق التعددي: التعايش والسيادة عند آرندت"، تقول المؤلفة إن فكرة آرندت للتعايش تنبع من أن الحصول على وطن لليهود حصرًا على أرض بسكان فلسطينيين ليس ممكنًا، وتعرض نشوء هذا المفهوم للتعايش جزئيًا من حالة المنفى، والقرابة مع الصيغة البنيامينية للمشيحانية التي قدّمت بديلًا متميزًا عن التطور التاريخي التقدمي الكاشِف، من خلال إعطاء الأولوية لطابع التيه والتبعثر للحياة اليهودية. وتقول إن التعددية التي تستحضرها آرندت صوت نمطٍ نصي من المخاطبة، يعرض نفسه على كل من يستطيع قراءة ما يتم إظهاره من خلال القراءة ورؤيته، "إنه صوت يتحدث بوصفه نحن مقسمةً بحسب التعريف إلى العديد منها؛ تتحرك في نوبات مفاجئة وهاربة بين أنا ونحن"، وتفصل في بعض الأحيان بين نمطين من التعددية: نمط هو الذات، ونمط هو الذات مع الآخرين.
الماضي في المستقبل
تكتب بتلر في الفصل السابع، "بريمو ليفي الآن"، أنّ مهمة بريمو ليفي كانت تقديم حقيقة معسكرات التركيز النازية. وفي أعمال ليفي اللاحقة توترٌ بين الذاكرة التي يسمّيها الأداة المضللة ومطالب القصة أو السرد، و"كان على دراية تامة أن تاريخ تلك المرحلة سوف يُحكى مرةً تلو أخرى، وأن القصص ستأخذ على الأرجح مكان الذكريات، وفي النتيجة سيكون عليها أن تحل محلها ما إن يختفي الناجون الأحياء". وتسأل بتلر: "كيف لنا أن نفهم علاقة ليفي بما يمكن التحدث عنه وما لا يمكن؟ وكيف لهذا الأمر الذي يبدو غير قابل للتحدث عنه أو الاسترجاع أن يُحمل عبر اللغة التي يستخدمها؟".
وفي الفصل الثامن والأخير، "ماذا سنفعل من دون منفى؟ سعيد ودرويش يخاطبان المستقبل"، تقول المؤلفة إن أيّ تقدم إلى المستقبل لن يكون مفيدًا إذا أخفق في مقاومة الطمس. ومع هذا، فإن كثيرًا من المقاربات العملية المفترضة لمسألة فلسطين يعتمد على هذا الطمس. لا يمكن مجموعة من الحوادث أن تنشأ بوصفها تاريخية إلا إذا لم يتم طمسها. وفي رأيها، النضال ضد طمس النكبة ضروري لأي تحرك إلى الأمام، ويتطلب النسيان الذي تهدد النكبة بالوقوع في طيّاته، رفضَ التحريفية واستخدامات النسيان للإنتاج والبقاء. وتحاول المؤلفة أن تفهم من محمود درويش ما نوع المستقبل الذي تناوله إدوارد سعيد في تأملاته الأخيرة حول ثنائية القومية، وحول المستقبل والمستحيل والمنفى، من خلال تحليل قصيدة درويش لمناسبة وفاة سعيد.