ثمة إشكاليتان تحكمان كتاب شمس الدين الكيلاني مدخل في الحياة السياسية السورية: من تأسيس الكيان إلى الثورة، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، هما: الاندماج أو التفكك الوطني في حياة السوريين، والحياة الدستورية ومدى نفوذها في التاريخ السوري، بطريقة تجعل منها أرضية صالحة للبناء عليها.
استرجع الكيلاني في هذا الكتاب (11 فصلًا في 232 صفحة بالقطع الصغير، موثقًا ومفهرسًا) ذاكرة السوريين وتقاليدهم الديمقراطية التي تؤهلهم للعبور إلى الديمقراطية، والعودة إلى المعالم التاريخية البارزة، المعبرة عن رسوخ رابطتهم الوطنية في السراء والضراء.
سوريّة الكيان
في الفصل الأول، النواة المؤسسة للكيان - العهد الفيصلي، أعاد الكيلاني تاريخ تكوين الدولة الحديثة السورية إلى تاريخ دخول الأمير فيصل دمشق في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 1918 حيث انتعشت في ذلك العهد الحياة السياسية العامة ، وحرية تشكيل الأحزاب والجمعيات وهيئات المجتمع المدني والأهلي، كما انتعش فضاء حر يغتني بالحريات العامة. ويتكلم الكيلاني عن المؤتمر السوري العام الذي صدر عنه وثيقتان مهمتان لخصتا تمسك السوريين بأن تكون حكومة هذه البلاد السورية ملَكية، مدنية، نيابية، تدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الواسعة، وتحفظ حقوق الأقليات، على أن يكون ملك هذه البلاد الأمير فيصل. وعكست قرارات المؤتمر الجوانب الديمقراطية من خطاب النُخب السورية المدينية.
في الفصل الثاني، الحياة السياسية السورية في ظل الاحتلال الفرنسي - صعود الوطنية السورية، قال الكيلاني إن نضالات السوريين فرضت وحدة سورية في حدوها الحالية، ودعمت الرابطة الوطنية السورية، وأبقت على النزوع إلى العروبة، واستخلصت اعترافًا بحرياته الديمقراطية، وتلاقت مع رغبة الفرنسيين في إقامة المؤسسات الديمقراطية (البرلمان والحريات الصحافية والمؤسسات القضائية)، ما ساعد في إرساء مجال سياسي وفّر الفرص لبزوغ الأحزاب والكتل السياسية بتنوعاتها المختلفة.
تناول الكيلاني في الفصل الثالث، الكتلة الوطنية والفوز بالاستقلال الوطني والديمقراطية وتهديد العسكر، تمزق الكتلة الوطنية أمام التجاذبات المحلية لوالوطنية والإقليمية، وتواطؤ النخب السياسية وتكيّفها ومقاومتها للانقلاب. قال إن المجال السياسي السوري شهد استقرارًا في الزعامة السياسية والقيادة الوطنية لما يقارب العقدين من الزمان، بين عامي 1927 و1949، حتى انقلاب حسني الزعيم، "وهذا الاستقرار المديد للقيادة الوطنية التي تخترق اجتماعيًا المكوّنات الاجتماعية السورية، عزز صلابة الرابطة الوطنية، ولاسيما أن الحياة الدستورية الديمقراطية في مؤسساتها الدولاتية منحت القوة والثبات لهذه الرابطة، وزاد من دعم الرابطة الوطنية حيوية هيئات المجتمع المدني وتشكلاته المتشعبة التي ربطت السوريين بشبكة واسعة متشعبة من الروابط".
سوريّة المتحوّلة
تكلم الكيلاني في الفصل الرابع، عهد ديمقراطي يُفضي إلى الجمهورية العربية المتحدة وجمود الحياة السياسية، على قيام الجمهورية العربية المتحدة، وضمور الحياة السياسية. كتب: "عند تشكيل الهيكلية السياسية للسلطة في الجمهورية المتحدة، وتأليف الوزارة ووزارة الإقليمين، كان للبعث وأصدقائه نصيب مهم، مع إشراك شخصيات يسارية من حزبي الشعب والوطني". في الوقت الذي بدأت فيه قيادة البعث بالابتعاد عن عبد الناصر، كانت قواعد الحزب قد حولت ولاءها إليه واخترقت الميول الناصرية قادة الصفين الثاني والأول للحزب.
في الفصل الخامس، مرحلة ليبرالية على عجل (1961 – 1963)، بحث الكيلاني في الانفصال في 28 أيلول/سبتمبر 1961، وعودة الحياة البرلمانية والحريات العامة في مناخ سياسي مضطرب ومتقلب، وعودة الأحزاب إلى ممارسة نشاطها بكل حرية، وإلى الاختلاف والتقاتل والتناحر لافتقادها الناظم السياسي الاجتماعي الذي كانت توفره الكتلة الوطنية. انقسمت سورية بين متمسك بالكيان السوري ومستميت في الدفاع عن الوحدة. كانت الحركة الناصرية تدفع إلى إعادة البلد إلى كنَف الجمهورية العربية المتحدة، بينما لم يتردد الشيوعيون في إعلان عدائهم لعبد الناصر والوحدة، وتمسكهم بالكيان السوري. تردد البعث بين القبول بالوضع الجديد والعمل على تجديد وحدة يكون له فيها دور راجح. أغرى هذا الانقسام العسكر، فحدثت ثلاث محاولات انقلابية في عامين.
كتب الكيلاني في الفصل السادس، حركة 8 آذار/مارس والتحول نحو التسلطية، عن إسقاط شركاء اللجنة العسكرية للبعث، وعن حركة 23 شباط/فبراير 1966، وهزيمة حزيران/يونيو وازدواجية السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد. فبعيد الهزيمة، أدرك السوريون أن حكامهم الجدد استخدموا الشعارات القومية في سوق المنافسة والصراع مع الناصريين في الداخل، وفي ساحة الصراع مع عبد الناصر الذي يواليه على الأقل نصف الشعب السوري، بينما حكامهم يعتمدون القوة للبقاء بسبب عدم امتلاكهم قاعدة اجتماعية وطنية.
سوريّة الأسد
في الفصل السابع، الأسد - الحركة التصحيحية: مجتمع تحت المراقبة والعقاب والرعب، تحدث الكيلاني عن مشهد سياسي متغير، وعن بناء صرح النظام التسلطي. فالصراعات بلغت ذروتها في صفوف اللجنة العسكرية بعيد هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967 بين صلاح جديد وحافظ الأسد، "وشهدت سورية ازدواجية سلطة بين الرجلين امتدت بين عامي 1967 و1970، حسمها الأسد لمصلحته في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1970، في وقت مواتٍ؛ إذ كان المسرح السلطوي البيروقراطي قد أُعد لصعوده. فوراء الخطاب اليساري الشعبوي الذي أطلقه جديد ورفاقه، كان يرتفع صرح الدولة الأمنية، وتتوطد سطوة مراقبة المجتمع وقهره التدريجي في شتى المجالات". أنتج هذا الصرح المهول قائده: الأسد الممثل الملائم للدولة الأمنية في وقت تم فيه إفقار الدولة والمجتمع، وانتظر الجميع المنقذ. وبعدما خسر الأسد المعركة العسكرية الوحيدة التي خاضها في 5 حزيران/يونيو 1967، انقض على رفاق الأمس: أودع صلاح جديد السجن، واغتال محمد عمران في لبنان.
قال الكيلاني في الفصل الثامن، الأسد الابن بين إجهاض ربيع دمشق وانفجار الثورة، إن بشار الأسد أطلق في خطابه الرئاسي الأول في مجلس الشعب وعودًا سخية للشعب، فالتقطها المثقفون وأصحاب الرأي، وبرز أكاديميون ودبلوماسيون سابقون ومفكرون معروفون "مثل أنطون مقدسي الذي تحدث في رسالته المعروفة إلى الرئيس الأسد الابن عن الغياب الطويل للشعب، وعن الحاجة إلى سنوات مديدة من تبادل الرأي، وأخذ الرأي الآخر في الحسبان، ومن ثم تحويل الشعب من وضع الرعية إلى وضع المواطنة". تحت عنوان "العودة إلى سياسة الأب القائد"، يتناول المؤلف ربيع دمشق واتجاه النظام إلى خيارات مألوفة تقضي بإخماد جذوتها. ثم تناول محاولات يائسة للمعارضة السورية في ترتيب بيتها: إعلان دمشق أنموذجًا.
سوريّة الثورة
في الفصل التاسع، ثورة الكرامة والحرية، رأى الكيلاني أن الثورة السورية تفجرت في خضم حركة الربيع العربي، ولأسباب اجتماعية وسياسية داخلية عميقة الجذور، "تقدمت بمطلبها الأعظم: الحرية والكرامة والعدالة للسوريين كلهم من دون تمييز. استمدت الثورة شرعيتها وعدالتها المبدئية من مواجهتها نظامًا يعامل الشعب باحتقار، كأنه مجموعة من العبيد، وبتمييز يقارب التمييز العنصري". تحدث عن بروز مراكز جديدة للقيادة، والتظاهرات الاحتجاجية. وتناول بحث الثورة عن قيادة جامعة، "فلم يتمكن المثقفون والناشطون الميدانيون في الداخل الذين برزوا خلال الشهور الأولى السلمية للثورة، من تكوين جسم سياسي وطني يكون ممث سياسيًا للثورة. انتظروا لمن المفكرين وقادة الأحزاب وذوي الخبرة السياسية من السوريين المبادرة إلى تشكيل الهيئة القيادية السياسية للثورة، في وقت كانت فيه الحياة السياسية في حالة شلل وانطفاء، وكانت فيه المعارضة تعاني الضعف والتفكك".
عرض الكيلاني في الفصل العاشر، المجلس الوطني السوري، لتجربة أول كيان تمثيلي للمعارضة السورية، وكان يشكل إطارًا موحدًا للمعارضة السورية، يضم الأطياف السياسية كلها، من الليبراليين إلى الإخوان المسلمين، ولجان التنسيق المحلية والأكراد والأشوريين، والعنوان الرئيس للثورة السورية، "غير أن آلية عمل المجلس المؤسسة على قاعدة التوافق والتوازن والمحاصصة بين مكوناته المختلفة عطلت دينامية انطلاقه وطبعت أداءه بالرتابة".
في الفصل الحادي عشر والأخير، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، تحدث المؤلف عن تداعي فصائل المعارضة السياسية والقوى الثورية التي تناضل للانتقال نحو دولة ديمقراطية مدنية تعددية قوية ومستقرة، كي تلتقي في إطارٍ قيادي جامع، وولادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وقيادة معاذ الخطيب المترددة، ثم قيادة جورج صبرة الموقتة، ثم رئاسة أحمد عاصي الجربا والميل نحو الفردية... ومواقف الإئتلاف من جنيف-1 وجنيف-2 والعملية السياسية في سورية، وتراجع دوره.