أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات طبعة ثانية من كتاب صنع العدو أو كيف تقتلب ضمير مرتاح، في سلسلة "ترجمان"، وهو ترجمة نبيل عجّان لكتاب بيير كونيسا La Fabrication de l'ennemi: ou comment tuer avec sa conscience pour soi، وراجعه سعود المولى. في هذا الكتاب، يفكك كونيسا الكيفية التي تُبنى بها علاقة العداوة، ويُبتدع بها العدو قبل الذهاب إلى الحرب. لكنّ ما يجترحه المؤلّف لا يقلّ عن كونه قطيعة مع التحليل الاستراتيجي التقليدي، وتغييرًا للطرائق التي كنا نتكلّم بها على الاستراتيجيا العسكرية، مبيّنًا أن الحساب الاستراتيجي الذي طالما آمنا أنّه يُبنى على المنطق والعلم والمعارف التي تتوخّى الدقّة، لا يني يستند إلى خرافات وأيديولوجيات وأكاذيب متعمّدة نوعًا ما، وإلى معرفة بالواقع وبحالة الفاعلين المعنيين تكاد تكون معدومة.
لماذا العدو؟ ما دوره في المجتمعات المعاصرة؟ ما صلته ببناء الهوية؟ من يصنع العدو؟يقع هذا الكتاب (368 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في سبعة عشر فصلًا، تتوزّع في ثلاثة أقسام، مع مقدمة وخاتمة.
يتناول كونيسا في المقدمة مفهومي الحرب والعدو من خلال أسئلة ترجّ المسلمات، على الرغم مما تبدو عليه من بساطة: لماذا العدو؟ ما دوره في المجتمعات المعاصرة؟ ما صلته ببناء الهوية؟ من يصنع العدو؟
في القسم الأول: ما العدو؟، خمسة فصول يتأمّل فيها المؤلّف ما يجعل العدو ضرورةً، وما يجعل فقدانه مثيرًا للقلق، فيعود إلى أبرز المنظّرين وعلماء السياسة والحقوقيين وعلماء الاجتماع والاستراتيجيين الذين تناولوا موضوع العدو والحرب. ويبيّن أن التفكير الاستراتيجي الكلاسيكي لا يُعنى كثيرًا بالعدو قبل الحرب، وأنَّ العدو حدّ اجتماعي أكثر منه حقوقي، وأنّ الآخر ضروري لبناء الهوية وتوطيد الأواصر ضمن الجماعة وتهدئة قلقها.
وإذ يناقش الكاتب مفهوم الحرب العادلة، يبيّن أنّه مفهوم مفتقر إلى الدقّة وربما إلى الأخلاق، وأنّ تحديد العدو وصنعه تقوم به اليوم مراكز مختصة واستراتيجيون غير رسميين يدعوهم بالميثولوجيين، ويجري عبر إعداد خطاب استراتيجي، وتجهيز قادة للرأي يدعوهم "محددي الأعداء"، يشرعنون العنف المسلّح.
وجوه وأصناف العدو
يضم القسم الثاني من كتاب صنع العدو: أو كيف تقتل بضمير مرتاح، وهو بعنوان "وجوه العدوّ: محاولة تصنيف نمطي"، ثمانية فصول، يحاول كونيسا فيها وَضْعَ تصنيف غير نهائي بضروب الأعداء، لافتًا إلى أن أي أنموذج من النماذج المذكورة ليس نقيًّا تمامًا؛ فالعدو غالبًا مزيج مهجّن من أصناف ومكونات عدّة، والغاية من التصنيف هي غاية بحثيّة أساسًا.
يربط كونيسا نمط العدو القريب بالنزاعات الحدودية، ويرى أن جذوره وآلياته الأيديولوجية قومية دينية في الغالب، وأنَّ أبرز بناته هم القادة العسكريون والسياسيون المفتقرون إلى الشرعية. أمّا المنافس العالمي فوليد صراع الإمبرياليات والقوى العظمى واقتسام العالم وسباق التسلّح. والعدوّ الحميم وليد الحروب الأهلية وعبادة العنف في محاولة لها دعاتها ومزاعمها ترمي إلى إقصاء جزء من النسيج الاجتماعي. وصورة الهمجي تُبنى للخاضعين للاحتلال في محاولة لشيطنتهم وتبرير العنف الممارس ضدهم، إذا تمردوا. والعدو الخفيّ هو ابن نظرية المؤامرة، في حين أن العدو المطلق هو ابن الحرب الكونية المزعومة على الشرّ. أمّا العدو المفهومي فابن القومية التقديسية وصدام الحضارات المزعوم الذي يحيي أفكار وممارسات الإمبراطورية والإمبريالية وحتمية استخدام القوة والحرب الشاملة والعدو الخفيّ.
أخيرًا، ثمة العدو الإعلامي، ابن الثورة التقنية المعلوماتية والإمبراطوريات الإعلامية التي تصنع الحروب.
صنع العدو: تفكيك العدو وكيف تقتل بضمير مرتاح
في القسم الثالث والأخير: تفكيك العدو، أربعة فصول، يرى فيها المؤلّف أن من الممكن العيش من دون عدو. فما دام العدو بناءً، فمن الممكن تفكيكه. والسؤال هو عن كيفية ذلك، لا عن إمكانيته. لذلك، يعود كونيسا إلى عدد كبير من النزاعات التي شهدها العالم ليرصد ما عرفته من مصالحة واعتراف بالمسؤولية وتكفير عن الذنب وصفح ونسيان وعدالة وسوى ذلك من الطرائق الإبداعية للخروج من حالة الحرب والعداوة. كما يشير إلى أهمية الخطاب الرافض للحرب ولو كان أحادي الجانب.
يلجأ المؤلّف إلى العديد من الحالات والجهود الناجحة كالحالة الألمانية والجهود البابوية وحالة بريطانيا وتجربة الاتحاد الأوروبي، والمخفقة كحالة تركيا حيال الأرمن، واليابان حيال جيرانها الآسيويين، وفرنسا حيال الجزائر.
في الخاتمة، يشير كونيسا إلى اشتداد عمليات صنع العدو خلال العقود المقبلة، وتحولها إلى قطاع إنتاج ضخم. ويبرر انتقاده الديمقراطيات في سياق الكتاب أكثر من الدكتاتوريات بأنّ موضوعه هو تفكيك الآليات التي تؤمّن راحة الضمير قبل شنّ الحروب والذهاب إلى ساحة الوغى، الأمر الذي يمكن أن يساعد في استباق أسباب النزاعات وتقليصها.