صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الحركات الاحتجاجية في المغرب ودينامية التغيير ضمن الاستمرارية، ويحلل فيه مؤلفه الحبيب استاتي زين الدين الحركات الاحتجاجية في المغرب علميًا، ليس باعتبارها ردات فعل جماعية على أوضاع سياسية واجتماعية معيّنة وبطرائق غير عنيفة فحسب، وإنما بوصفها ظاهرة سوسيوسياسية تعبِّر عن يقظة شعبية، وتكرِّس الحق في التعبير عن الرفض والاختلاف، وبلورة مواقف تجاه قضايا مختلفة، وممارسة الضغط السلمي على السلطة.
المخزن والقبيلة والمستعمر
يتألف الكتاب (524 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ستة فصول وخاتمة. ينطلق المؤلف في الفصل الأول "زمن الاستئناس بالاحتجاج في ظل ثلاثية المخزن والقبيلة والمستعمر"، من مسلّمة جوهرية قوامها أن الحفر في ظاهرة الاحتجاج يفرض على الباحث العودة إلى التاريخ بوصفه دراسة رموز، قائمة حاليًّا ودالة على تلك الحوادث التي عاشها الإنسان في الماضي، سواءً أكانت هذه الرموز من منظور عبد الله العروي بقايا مادية أم نقوشًا أم شهادات شفوية.
ولمّا كان الموقع الاستراتيجي للمغرب محطّ أطماع ومنازعات متنوعة، فلا غرابة ألا يسلم من محاولات الإخضاع والضغط الخارجي منذ القدم، بشكل ضاعف من مشكلات السلطة السياسية داخليًّا. إن هذه الرقعة الجغرافية التي بدت محدودة الإمكانات والموارد المالية، وشاحبة العطاء الفكري والحضاري وقتذاك، وجدت ساكنتُها في الاحتجاج، لحظة التفاعل مع السلطة المحلية المأزومة والاصطدام بقوة الاستعمار، السلاحَ الأنسب للتعبير عن الصمود والتحدي الممزوج بمجالات رمزية عدة تتقدمها العصبية التي تحولت من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية في حالتها الكامنة أو الحادة، إلى وقود فاعل للمواجهة والمطالبة.
احتجاج على التسلط فتسلط الاحتجاج
في الفصل الثاني "من الاحتجاج على التسلط إلى سلطة الاحتجاج"، يكتشف زين الدين ما حظي به بعض الحركات الاحتجاجية من عناية وانتشار على المستويين الداخلي والخارجي، بفعل عوامل ترتبط بحدّة المواجهة والعنف المتبادل بين تيارات الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية، خصوصًا أن المغرب وجد نفسه غداة الاستقلال، ومنذ اللحظات الأولى لانسحاب الاستعمار، يعيش انشغالًا وتحولًا في تحمّل الدولة دورًا كان من مسؤولية المجتمع. لكنه مجتمع خضع لسيرورة تحديث عنيف وموجّه وغير مستقل تدفعنا إلى البحث في أوجهها ومفارقاتها ونتائجها على الدولة والمجتمع، وصولًا إلى فهم طبيعة التغير الذي مس الفعل الاحتجاجي بانتقاله من رفض الفاعل السياسي تمظهرات القهر والتحكم في السلطة وتوجيه دفتها خلال سنوات الاحتجاج الممنوع، إلى ظهور فاعلين جدد أكسبوا هذا الفعل سلطة رمزية لها القدرة على المساءلة والضغط والتنبيه إلى ضعف الاختيارات التنموية للحكومات المتعاقبة، على نحو يشير إلى ميلاد وعي جديد في إطار ما يمكن أن نطلق عليه المقاربة الانفتاحية على المعارضة في العقد الأخير من القرن العشرين، بضرورة بناء دولة المواطَنة، والتحرر من التبعية وإقرار الديمقراطية وتحقيق التنمية.
تضمين قانوني وتمكين واقعي
أما في الفصل الثالث وعنوانه "أشكال الممارسة الاحتجاجية وملامحها"، فيعتمد المؤلف آليتي التحليل والمقارنة لتبيان مختلف أشكال الممارسة الاحتجاجية وملامحها في أفق التحديد الدقيق لما هو مستقِرّ ومتجدِّد فيها.
لكن المؤلف، في الفصل الرابع الموسوم "الاحتجاج السلمي بين التضمين القانوني والتمكين الواقعي"، يحاول تقريب مضامين النصوص القانونية المنظِّمة الحق في الاحتجاج السلمي على المستويين الدولي والوطني من ذهن القارئ، وتيسير فهمه مأزقَ المقاربة الأمنية التي تسلكها الإدارة في تدبير ثنائية الحق في الاحتجاج السلمي وواجب احترام النظام العام، موازاةً مع جعله يتنبه إلى صعوبات نجاح القضاء في مهمة التوفيق بين إكراهات السلطة ومستلزمات الحرية في ظل مجتمع تراهن ديناميته على إحداث التغيير في إطار الاستمرارية. ومن أبرز دلائل هذا الرهان ما شهده الفضاء العمومي من حركية ملحوظة منذ عام 2011، تزامنًا مع الحراك العربي.
التغيير في سياق الاستمرارية
يتطلع المؤلف في الفصل الخامس، "حركة 20 فبراير ورهان التغيير في سياق الاستمرارية"، إلى تشخيص محفِّزات الحراك المغربي وتداعيات عدوى انتشاره، بتعبير صامويل هنتنغتون، من خلال تسليط الضوء على السياق العام والخاص لبروز حراك "20 فبراير"، ومكوناته الأساسية، والمطالب التي انبثقت عنه، فضلًا عن الاستراتيجية التي نهجها النظام السياسي لمصاحبته واحتوائه، وردات فعل الحركة والمآلات التي بَلَغتْها إلى حدود عام 2017. كان يُنظر إلى هذا الحراك في البداية، على أنه احتجاجات تقليدية لا تخرج عن دائرة المألوف، لكن حدته واستماتته واستمراريته سرعان ما ضاعفت تخوف السلطات السياسية، وحذر المجتمع الدولي، وحجم التغطية والتداول الإعلامي والإلكتروني، واهتمام المراكز البحثية. والأهم أنه أوجب إعادة النظر في جميع النظريات الأكاديمية التي تحدثت عن الاستثناء العربي الذي حصَّن أنظمة الحكم فيها طوال الحقب الماضية، حتى اطمأنت إلى حالة الجمود السياسي داخل بلدانها، بالموازاة مع تجديد التساؤل حول خصوصيات فضاء ظاهرة الاحتجاج والشروط الذاتية والموضوعية التي تتحكم في اتساع مداها أو الحد من آثارها بالرجوع إلى التفسيرات التي أنتجتها السوسيولوجيا السياسية.
في ضوء السوسيولوجيا السياسية
وفي الفصل السادس، "الفعل الاحتجاجي في ضوء السوسيولوجيا السياسية"، يستعين زيد الدين بالتراكمات الفكرية للسوسيولوجيا السياسية، في مسعى إلى فهم هذه الظاهرة المتعددة الأوجه، مع الانتباه إلى الاختلافات النظرية، والانتقادات التي وُجِّهت إلى أطروحاتها، ومراعاة السياقات التي تتحكم في الفعل الاحتجاجي، خصوصًا أن الحقل التجريبي لهذه النظريات داخل المؤسسات الجامعية والمراكز البحثية في البلدان العربية، ومن بينها المغرب، ما زال بكرًا.
يختتم المؤلف الكتاب بمراهنته على إثارة الانتباه إلى تطور الحركات الاحتجاجية، وما نجم عنها من تغيرات شملت تعبيرات الاحتجاج ومضمون رسالته، بالتزامن مع التحولات المتسارعة التي يشهدها المغرب، في سياقين؛ محلي ودولي متوترين ومتقلبين، وغايته في ذلك التنبيه إلى ضرورة التسريع ببلورة سياسات عمومية مندمجة ومتكاملة، من شأنها ضمان السِّلم الاجتماعي والاستقرار السياسي في الحاضر والمستقبل.