يواجه المؤرخ إشكالات منهجية عند دراسته ظروف عيش المجتمعات التاريخية وأنماطها، خصوصًا عند سعيه لتحديد طبيعة نمو الساكنة ووتيرتها. فهو غالبًا ما يواجه ندرة المصادر وشُحَّ الوثائق، ويضطر إلى "اختراع" مناهل مصدرية جديدة، واستعمال مقاربات وآليات منهجية مستعارة من علوم أخرى، كالاستقصاء الإثنوغرافي أو المناهج الكمية، لعلها تمكنه من استنطاق جديد للنصوص، وقراءات متجددة للمعطيات. إن الإقبال الكبير على المقاربات الكمية يضعنا أمام أسئلة أولية بخصوص مشروعية الاستناد إلى هذه المقاربات، وبما يتعلق بمقاصد هذه الأدوات الإحصائية وأهدافها، وكذا بحدودها المعرفية والمنهجية.
من خلال هذه الدراسة، سنحاول التعريف بمراحل تطور التاريخ الكمي عبر أعلامه ومدارسه، قبل أن نعرض لبعض الأطروحات التاريخية الكبرى التي قاربت التاريخ الديموغرافي للمجتمعات العربية - الإسلامية وأطّرت البحث في هذا المجال. وفي مستوى آخر، سنبرز - من خلال مجموعة من الدراسات العربية والغربية الرصينة – مختلف المناهج المتعلقة بدراسة وإحصاء ساكنة المدن الإسلامية عبر أزمنة تاريخة مختلفة. أما القصد من هذا العرض المُوسَّع لمجموعة من الحواضر الإسلامية، فهو توسيع المجال المدروس، واستعراض نقدي لنماذج مختلفة من استثمار النظريات الديموغرافية، ومن توظيف الآليات والمقاربات الكمية من خلال مختلف النصوص التاريخية والمعطيات العمرانية والأثرية.