يقدّم علي عبد الرءوف في كتابه شعب وميدان ومدينة: العمران والثورة والمجتمع – القصة الإنسانية والمعمارية والعمرانية لميدان التحرير، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، القصة الإنسانية المكانية العمرانية المعمارية لميدان التحرير، ويستشرف منها فهمًا جديدًا لمدينة القاهرة، وتفسيرًا مغايرًا لعلاقة المجتمع، أو الشعب المصري، بالميدان، ملقيًا الضوء على قدرة هذا الميدان المكانية في استيعاب الثوار، وتحوله من فضاء رسمي بارد إلى فضاء شعبي تملكه الجماعة الإنسانية.
ميدان الفضاء العام
يتألف هذا الكتاب (255 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من خمسة فصول. يتناول المؤلف، في الفصل الأول المعنون "الميدان: الروح والفضاء العام" القيمة الأكبر للفضاء الحضري العام في سياق نسيج المدينة، ويوضّح علاقة هذا المكوِّن الجوهري بقيم الانتماء وحرية التعبير الجماعي وإثراء روح المجتمع، ويفسّر التعريفات المتعلقة بالفضاءات العامة، ثم يتتبعها تاريخيًا في سياق نمو فكرة الفضاء العام منذ الحضارة الإغريقية. كما يقدّم تحليلًا لما للفضاءات العامة من أبعاد مختلفة، وخصوصًا على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ثم يُسقط المستنتَج على حالة الفضاءات العامة في مصر، وبصورة خاصة في مدينة القاهرة، وينتهي بإبانة أن ميدان التحرير هو بالفعل ميدان عام (وظيفيًا وعمرانيًا)، مورس فيه نشاط مجتمعي محدَّد، لكن مع حدود قصوى من الفوضى والقمع؛ ما أدى بالضرورة إلى قيام ثورة 25 يناير، أي نضال شعب عبر الميدان.
الميدان والشعب
يذهب المؤلف في الفصل الثاني الموسوم بـ "قصة الميدان والشعب"، إلىأنه على الرغم من أنّ ميدان التحرير لم يكن مصمَّمًا ليكون ممثَّلًا للفضاء العام الأكثر أهميةً في حياة الشعب المصري، خصوصًا طبقتيْه المتوسطة والبسيطة، فإنّ مراجعة تاريخ هذا الميدان، ولا سيما تاريخه في التعبير النضالي، تفسّر القيمة الرمزية التي جعلت ثوار 25 يناير يختارونه مسرحًا لبطولاتهم التاريخية غير المسبوقة، ويجعلونه محور اهتمام العالم في أطول ثمانية عشر يومًا (25 كانون الثاني/ يناير 2011 يوم انطلاق الثورة - 11 شباط/ فبراير 2011 يوم تنحّي حسني مبارك) في حياة الشعب المصري وأكثرها قيمة وأهمية. بناء على ذلك، يحاول عبد الرءوف أن يقدّم فهمًا لتاريخ البنية الفضائية والعمرانية لميدان التحرير، من خلال سياق القاهرة وبنيتها العمرانية وتحولاتها، ومن خلال تحليل السياق العمراني والمعماري للميدان، ثم ينطلق إلى صوغ مساهمة وإدراك أوسع في فهم التاريخ النضالي لفضاء ميدان التّحرير، حيث يقدّم تفسيرًا للعوامل التي حولت الميدان إلى الفضاء الأكثر استقطابًا واستقبالًا لمحاولات الشعب المصري في الثورة والاحتجاج والاعتراض.
ميلاد جديد ... ميدان جديد
يرى عبد الرءوف، في الفصل الثالث، "ثورة ميدان: الميلاد الجديد للفضاء العام"، وانطلاقًا من تسبّب صفحة على موقع فيسبوك في إطلاق شرارة ثورة 25 يناير في مصر، تجسّدت في الفضاءات الافتراضية وفي الشوارع على حدّ سواء، أنّ وسائل التواصل الاجتماعي كانت بمنزلة ساحة للتحرير، بل كانت تعمل أيضًا بوصفها ساحة تتنافس فيها القوى المختلفة على جذب عقول الشباب. ويرى المؤلف أنها معركة على أفكار مهمّة، كطبيعة الحرية، ومكان الجيل الصاعد في النظام السياسي. لذا، يقدم المؤلف رؤى ثاقبة لفهم نوعية الكفاح الجديد المستمر بين الشعب والسلطة في العصر الرقمي، وفي المكان أو الفضاء العام. كما يحلل علاقة المجتمع بالفضاء العام، ويختبر دور التقنيات الرقمية وآليات التواصل الاجتماعي في توليد زخم جديد نحو إعادة امتلاك الفضاءات العامة في المدينة.
أمّا الفصل الرابع، "البداية الجديدة للميدان: رؤى واستشراف"، فاتخذه المؤلف مجالًا ليناقش حالة ميدان التحرير الذهنية الجديدة التي أنتجتها ثورة 25 يناير، فضلًا عن مناقشة دور المجتمع المصري في رسم ملامح مستقبل هذ الميدان، ويبلور تحديات صوغ رؤية مستقبلية للميدان، ومنهجية تأكيد قيمته بوصفه رمزًا للحرية وميدانًا للشعب. وينتهي الفصل باختبار الموقف المحلي والإقليمي والعالمي للميدان، والطرح المعماري والعمراني لتشكيل مستقبله، خصوصًا من شباب المعماريين والعمرانيين الذين شارك بعضهم في الثورة فعلًا.
تحولات بصرية وذهنية
يختم عبد الرءوف الكتاب بالفصل الخامس والأخير، "تحولات الصورة البصرية والذهنية لميدان التحرير من المقدَّس الى المدنَّس"، بالتعامل مع فرضية جوهرية قوامها أنّ التحوّل التدريجي، على مدار الأعوام السبعة الماضية، في الصورة الذهنية والبصرية والوجدانية لميدان التحرير من فراغ مقدَّس إلى فراغ مدنَّس، هو مشروع متعمَّد بهدف إهدار الطاقة الثورية وتشتيتها، وإجهاض دور الفضاء العام في مصر. كما يوضح أنّ تدمير القيمة المعنوية والرمزية، بل والمادية، لميدان التحرير، وبصورة تدريجية حتى اللحظة المعاصرة، جرى بأعلى درجات الإدراك من المجلس العسكري والنظام الحاكم، هذه الحالة الإدراكية التي استوعبت تمامًا أنّ إسقاط قيمة ميدان التحرير من الوعي الجمعي للشعب المصري، وما صاحب ذلك من تشويه كامل لصورته الذهنية واليوتوبية، هما الفعل الأقدر على سحق المدّ الثوري. يحلل المؤلف أيضًا جهد المجلس العسكري والنظام الحاكم في تجنيد مجموعة من الكتّاب والمفكرين لإجراء تغيير مرحلي لوعي المصريين الثائرين وعلاقتهم بفضاء الميدان، وهذا جهد تطوّر من النداء بعدم جدوى الاستمرار في التظاهر والاعتصام في ميدان التحرير، بدعوى أنّ المجلس العسكري تولّى زمام القيادة ويجدر بالشباب الثوري العودة إلى بيوته ومدارسه وجامعاته لأنّ الثورة أصبحت في أيد أمينة، إلى اتهام مَن في التحرير بأنهم مأجورون أو مضلَّلون.