صدر عن "سلسلة أطروحات الدكتوراه" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تعليم التفكير الفلسفي والسياق الثقافي العربي: أي دور للمعطّلات الثقافية؟ مقدمات في الحداثات التطبيقية، ألّفه محسن بن الحطاب التومي، منطلِقًا من معايشة لصيقة للشأن الفلسفي، تعلّمًا وتعليمًا وإشرافًا بيداغوجيًّا وبحثًا علميًّا، امتدّت ثلاثة عقود، ومعتمدًا على مقاربة كيفيّة تخاصصية متداخلة المناهج، لينتهي إلى أنّ المشكلة ليست في الفلسفة ذاتها بقدر ما هي في السياق والوسائط. فالنصوص التأسيسية لهذه الثقافة العربية تنخرط بوضوح في تثمين العقل والنظر والتأمّل والاعتبار. لكنّ الممارسات التطبيقية تكشف عن خشية وتظنّن واحتراس في التعامل مع الفلسفة والتفلسف والفلاسفة، يعود بدوره إلى توتّر تاريخي في العلاقة بين العقل والنّقل، وبين الحكمة والشريعة، وبين الفلسفة والدّين.
يتألف الكتاب (512 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من 6 فصول.
إحداثيات نظرية
في الفصل الأول، "إحداثيات نظرية"، يقدم التومي بحثه من جهة مبرراته وأهدافه ورهاناته، والدراسات السابقة والتعليق عليها، ثم يضبط الإشكالية وما يتفرع منها من أسئلة، ليقدم الفرضيات وزاوية النظر، وصولًا إلى بناء الإطارَين النظري والمفهومي.
تتلخص فرضيات هذا البحث في ما يأتي: لا تعود الصعوبات التي يعانيها درس الفلسفة في المعاهد الثانوية التونسية إلى أسباب مؤسساتية أو ديداكتيكية فحسب، بل كذلك إلى أسباب ثقافية؛ وتدريس الفلسفة في المعاهد الثانوية ذو علاقة بالسياق الثقافي العام؛ ويتأثر اتجاه التلميذ نحو مادة الفلسفة بالتصورات الاجتماعية السائدة حولها؛ وتتأثر هذه التصورات بدورها بالسياق الثقافي السائد؛ ولمفهوم العائق الثقافي قدرة إجرائية على تفسير جانب مهم من هذه الاتجاهات السلبية تجاه الفلسفة؛ وتؤثر العوائق الثقافية في درس الفلسفة في المعاهد الثانوية في تونس بتوسط المعاني والدلالات التي يعطيها الفاعل التربوي لها وللوضعية؛ والعوائق الثقافية نظام مركب من المكونات المعرفية والوجدانية، تتجلى من خلال التمثُّلات والتصورات والاتجاهات والميول والآراء والاعتقادات الضمنية والأحكام المسبقة؛ ويمارس العائق الثقافي تأثيره في ممارسات التلميذ وبناه التمثُّلية انطلاقًا من تفاعل دينامي بين مكوناته المعرفية والوجدانية؛ وتمارس العوائق الثقافية تأثيرها السلبي في درس الفلسفة وفقًا لمنطقٍ وقواعدَ وآلياتٍ ودينامياتٍ محددة.
إحداثيات منهجية
في الفصل الثاني، "إحداثيات منهجية"، يبني التومي الإحداثيات المنهجية لبحثه من خلال لحظتين، يتولى في الأولى تقديم أساس البحث وخلفيته الإبستيمولوجية مبينًا وجوهَ حاجة البحث وسبل استفادته من المقاربات الكيفية والتخاصصية المركبة والتفاعلية الرمزية وغيرها. أما في الثانية، فيتولى تقديم أدوات البحث المنهجية وتمشياته الإجرائية ووصف العينات. وينصبّ انشغال المؤلف على تبين منزلة تدريس الفلسفة في الثانوي، والنظر في ما إذا كان السياق الثقافي العام الذي تتموضع ضمنه يمثل عائقًا حقيقيًّا يحول دون تدريسها على الوجه المطلوب. وهو يرى أن الأمر يقتضي تشخيص العوائق الثقافية واستخراجها وتحليلها، "علمًا أننا سنهتم بهذه العوائق من جهتين: من جهة مكوناتها المعرفية، ومن جهة مكوناتها الوجدانية، ثم محاولة فهم آليات اشتغالها من خلال رصد التفاعل الجدلي بين مكوناتها الوجدانية ومكوناتها المعرفية في إطار سياق اجتماعي - ثقافي محدد"، فيتضح أننا أمام موضوع مركّب، متداخل المستويات، يتقاطع فيه التربوي بالديداكتيكي، والنفسي بالاجتماعي، والتاريخي بالثقافي. إن الطبيعة المركبة لهذا الموضوع تقتضي بالضرورة منهجًا مركبًا ومقاربة تخاصصية، "فإذا سلمنا بأن لا فصل بين الموضوع والمنهج، وبأن طبيعة الموضوع هي التي تحدد طبيعة المنهج، فلا معنى للحديث عن منهجية هذا البحث وعن أساسه الإبيستيمولوجي من دون الرجوع إلى خصوصية الموضوع الذي يتناوله".
تدريس الفلسفة بالمعاهد الثانوية التونسية
يرصد التومي، في الفصل الثالث، "واقع تدريس الفلسفة بالمعاهد الثانوية التونسية - رصد وتشخيص"، واقع تدريس الفلسفة وتشخيصه في المعاهد الثانوية التونسية، سواء من جهة الخلفية التاريخية للمسألة أو من جهة حاضرها واقعًا وتمثُّلًا، ثم تحديد منزلتها بين البيداغوجي والثقافي.
يقرأ المؤلف أزمة تعليم الفلسفة في تونس قراءات عدة: القراءة البيداغوجية والديداكتيكية للأزمة تتمحور حول المعطّلات التعليمية والبيداغوجية لتعليم التفلسف، أي الطريقة التلقينية، وغياب التمثُّل الدقيق لأهداف المادة، وضعف إطار التدريس، وضعف الضوارب، والعزوف عن المطالعة، وضعف التكوين الأساس للمدرسين، وعدم ملاءمة البرامج ... إلخ. وأما القراءة السياسية والأيديولوجية لأزمة الفلسفة، فتتركز حول عدم احترام خصوصية المادة وتوظيفها في التعبئة الأيديولوجية والصراع السياسي. وتهتم المقاربة الإدارية المؤسساتية بالإجراءات البيروقراطية المعطلة للتدريس، كتلك المتعلقة بالتوقيت والجدولة والضوارب، والتي عادة ما يكون لها دور مهم في تشكيل مواقف النفور والإعراض عن الفلسفة. وأما القراءة النفسية الوجدانية، فتهتم يالسيرورات الوجدانية والنفسية الواعية واللاواعية التي تتبلور من خلالها مواقف الكره والعداء والازدراء والخوف من الفلسفة.
صورة الفلسفة
يتتبع التومي، في الفصل الرابع، "صورة الفلسفة لدى التلاميذ واتجاهاتهم نحوها"، صورة تدريس الفلسفة من خلال التمثُّلات والاتجاهات السلبية تجاهها، وذلك بربطها بالسياق الثقافي، ثم ينظر بأي معنى يمكن أن تشكّل عوائق ثقافية. يحاول الباحث فهم المراجع التي تقف وراء المواقف السالبة تجاه مادة الفلسفة، فيذكر المراجع المعرفية المدرسية التي تستمد محتواها من المادة الفلسفية التي تسمح بها مسائل البرنامج؛ والمراجع النفسية، وهي حاصل المناخ الوجداني العام الذي يحف بالفلسفة صورًا ورموزًا ومسائل؛ والمراجع الاجتماعية والثقافية أي ما يتداوله الرأي العام في الشارع وداخل الأسرة من آراء وصور وأحكام ومواقف حول الفلسفة تستمد بدورها من المراجع الثقافية التي يتكثف فيها مجموع القيم والمعايير المحددة لمنزلة الفلسفة وقيمتها.
بحسب التومي، تنبعث الاتهامات المعلنة وغير المعلنة ضد الفلسفة من حالات وجدانية معادية تجاهها، فتأخذ أحيانًا شكل الخوف، وأحيانًا أخرى شكل الكره، وقد يصل الأمر إلى حد العداء الذي يتجسد في التنكيل بالمفكرين وحرق كتبهم بعد اتهامهم بالزندقة والكفر أو بالخروج على السائد والمألوف وإفساد عقول الشباب، بل قد يصل الأمر إلى تصفيتهم وشنقهم. يضيف: "على الرغم من أن مواقف العداء والرفض تجاه الفلسفة عادة ما تحاول إيهامنا بأنها تهجمات قد بنيت على مبررات واقعية تستمد شرعيتها من التعثر في الدراسة مثلًا، أو من البطالة، أو مما قد تفرزه من انسلاب وتغرب وانبتات، لكنّ جزءًا مهمًّا من أسسها العميقة يمكن أن نظفر به في مستوى الوجدان والحالة الوجدانية والشعورية تجاهها. وهذه الأخيرة تعود إلى عقدة حضارية تجاه العقلانية اليونانية والغرب والفلاسفة والحداثة والتقدم".
تأويل النتائج
أما الفصل الخامس، "تأويل النتائج"، فيفصل فيه التومي تحليل مفهوم المعطّلات الثقافية، ويبين أهميته الإجرائية في فهم أزمة تدريس الفلسفة. وينظر في بنية العائق الثقافي ومكوناته، وفي جينيالوجيا نشأته وتكونه وآليات اشتغاله والعلاقات الجدلية بين مكوناته المعرفية والوجدانية، ثم يحاول شده إلى السياق الثقافي، لينتهي إلى محاولة بنائه مفهوميًّا. بعد ذلك، يبين أهمية الوعي بهذه العوائق سبيلًا إلى تطوير تدريس الفلسفة.
في جانب من هذا الفصل، يتحدث المؤلف عن ثلاثة عوامل أساسية، كان لها عميق الأثر في كيفية تقبل المسلمين أول مرة كلمة "فلسفة" في القرن الثاني للهجرة، "أما العامل الأول، فإننا نرجعه إلى مصدرها اليوناني، بمعنى أنها كانت مادة ثقافية وافدة على الحضارة الإسلامية من قوم غير مشاركين لنا في الملة على حد عبارة ابن رشد لاحقًا، وما اقترن بذلك من ارتياب وتشكيك في مدى شرعية التعامل المعرفي والقيمي مع غير المسلمين، بخاصة أن الفلسفة اليونانية كانت تمثل نسقًا من الأفكار والنظريات والرؤى والقيم والمواقف حول الإنسان والكون والآلهة والخير والشر. أما العامل الثاني، فإننا نرجعه إلى اسم الفلسفة ذاته، لأننا نعتقد أن تسمية الفلسفة فلسفةً كانت ذات تأثيرات نفسية ووجدانية. لذلك، نرى أنه لو تمت تسمية الفلسفة منذ بدايتها حكمة، لكان لذلك أثر نفسي إيجابي مساعد على تقبلها واستدماجها ضمن الثقافة العربية الإسلامية منذ بداية ترجمتها. أما العامل الثالث، فإننا نرجعه إلى السجالات الفكرية والكلامية وإلى الصراعات السياسية والأيديولوجية التي كانت تدور بين الفرق والملل".
خلاصة البحث وآفاقه
في الفصل السادس، والأخير، "خلاصة البحث وآفاقه"، يوصى المؤلف بتعميم البحث على مستوى أقطار عربية وأجنبية أخرى قصد المقارنة والنظر في المشترك والمختلف بينها، ومواصلة البحث في التمثُّلات الاجتماعية، والسعي إلى مزيد من الانخراط ضمن مقاربات منظومية، مندمجة ومسيِّقة التمثُّلات الاجتماعية ومواكبة لما توفره العلوم المعرفائية Cognitive Sciences من ممكنات وكشوفات جديدة على مستوى سبر أغوار الدماغ البشري، والاشتغال على المكونات الوجدانية للتمثُّلات الاجتماعية وللاتجاهات على نحو أكثر تفصيلًا، وتسليط الضوء على المعارف والنظريات والمعتقدات الضمنية الحاكمة في العقل وفي الثقافة العربية الإسلامية باعتباره عملًا تشريحيًّا ونقديًّا ضروريًّا لتجاوز معطّلات هذا العقل وتلك الثقافة، واختبار مدى إجرائية مفهوم المعطّلات الثقافية باستخدامه في تفسير جوانب أخرى من الظاهرة الإنسانية وفهمها بوجه عام، والظاهرة التربوية على وجه الخصوص.
يضيف المؤلف إلى توصياته الآتي: "إذا كان ربط تعليم الفلسفة بسياقها الثقافي قد كشف لنا هشاشة الظاهرة الإنسانية، بمعنى شدة تأثرها بالسياق، فإننا - من دون أن نَسقط في ضرب من الاسمية - يمكن أن نقول إنه ليس ثمة ظاهرة في ذاتها بقدر ما هناك السياق، وإن الفلسفة في حد ذاتها محض تجريد، لأن الفلسفة لا تكتسب معناها الحقيقي إلا من خلال خصوصية السياق الذي توجد ضمنه، وهو ما يؤكد ضرورة استبدال أسئلة التحديث المجردة بأخرى مسيقة، والانتقال من الحداثة كمبحث نظري إلى ضرب من الحداثات التطبيقية".