صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب غسان الكحلوت العمل الإنساني: الواقع والتحديات، وهو كتاب تأسيسي في العمل الإنساني لِتَبْيئَة هذا الحقل الأكاديمي الجديد عربيًّا، والمساعدة في تكوين باحثين عرب وفهمهم الموضوعات المختلفة في هذا المجال، وتنمية كفاءاتهم وخبراتهم اللازمة في إعداد بحوث في المجال الإنساني ودراساته. فمنذ قرنين، أمسى العمل الإنساني معتمِدًا على مشاعر الإيثار وحب الخير. أما بعد تأسيس النظام العالمي الجديد بنهاية الحرب العالمية الثانية، وفي إثر الدعوة إلى عالم خالٍ من الحروب والصراعات، لزم إنشاء إطار مؤسسي تنتظم فيه الدول ذات السيادة، بدءًا باستبدال عصبة الأمم بمنظمة الأمم المتحدة وما تبعها من مؤسسات ووكالات. لكن الطبيعة الإنسانية تبقى متفاوتة، فلم تنتهِ الحروبُ والصراعات، وبقيت مجتمعاتٌ ودولٌ في حاجة إلى المساعدة، فلا تستطيع مواجهة الكوارث الطبيعية والحروب المدمرة بنفسها. لذا، صارت حوكمة العمل الإنساني ضرورة وحاجة، وكذلك المهنية في العمل الإنساني، ما انعكس تغيّرًا في اختصاص العاملين الإنسانيين.
الكارثة والطوارئ
يتألف الكتاب (352 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ثمانية فصول. في الفصل الأول، "الكارثة، النزاع، الطوارئ المعقدة"، يؤسس المؤلف للخطوط الرئيسة في مجالات العمل الإنساني، بدءًا بمفهوم الكارثة بشقيها الطبيعي والإنساني، ويبين أنواعها من حيث نطاقها وتكرارها، وسبل إدارتها، والتعامل مع ظروفها. ثم يستعرض المفاهيم الأساسية للنزاعات والصراعات، ومستوياتها المتعددة، وأدوات تحليلها، وما يرتبط بها من عنف وتدمير، إضافة إلى آراء المفكرين والمدارس النظرية بمواضيع الحرب وعوامل ظهورها واختفائها، وكيفيات تسوية النزاعات والتدخل لإنهائها.
أما في الفصل الثاني، "التطور التاريخي للعمل الإنساني: من معركة سولفيرينو إلى القمة العالمية الإنسانية بإسطنبول"، فيؤرخ المؤلف العمل الإنساني، بادئًا بعرض مقدمات تاريخية للنشاطات والأفكار الإنسانية، ثم يبيّن التطور التاريخي من عصر الإمبراطوريات الاستعمارية وما شهده من حروب استخدمت خلالها قوى الاستعمار آنذاك الأعمالَ الإنسانية لتحقيق مآربها، ثم المرحلة التأسيسية الأهم لحياة الإنسانية في أواخر القرن التاسع عشر وما شهدته من بدايات تقنين العمل الإنساني. بعدها، شهد العمل الإنساني في القرن العشرين نموًا متسارعًا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب البيافرا، والحرب الباردة، والحرب على الإرهاب والربيع العربي في القرن الحادي والعشرين.
مبادئ وأطر
في حين يورد المؤلف في الفصل الثالث، "مبادئ العمل الإنساني"، الأطر المعيارية والقيمية التي تنبع منها الأفكار والفلسفة الإنسانية، والمبادئ التشغيلية وقواعد التوجيه والسلوك للعاملين الإنسانيين، بما يشتمل على نقاط الخلاف الرئيسة بين تنظيرات العمل الإنساني وتطبيقاته. وأهم تلك المبادئ سيادة الدول وعدم إيقاع الضرر وثوابت الإنسانية وعدم التحيز والحياد والاستقلالية. كما يقدّم أهم التوجيهات لضمان تفعيل تلك المبادئ، خصوصًا في حالات ظهور موانع للتطبيق، مثل ضغوطات المانحين والحكومات وغيرهم من أصحاب المصلحة، والحواجز القانونية التي تتقاطع مع تلك المبادئ، والصعوبات التي تفرضها الظروف الزمانية والمكانية في سياقات كثيرة.
ثم يتناول في الفصل الرابع، "الأطر القانونية للعمل الإنساني"، أهم البنى القانونية والتشريعات التي حددت مجالات القطاع الإنساني ونطاقات عمله، والهياكل الرسمية المسؤولة عن تفسير وتطبيق الاتفاقات والمعاهدات الدولية والوطنية المرتبطة بمسائل التنظيمات الإنسانية، إضافة إلى تفصيلات القواعد القانونية الأهم وآثارها في أطراف العلاقة وذوي الصلة. كما يعرض أهم مبادئ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي للاجئين، مع تركيز أكبر على مسؤوليات وحقوق الحماية للمدنيين والمتضررين من الحروب والعنف، وأهم تقاطعات تلك القوانين، وضرورات تطبيقها وتسلسلاتها الهيكلية.
المعايير والحوكمة
ثم في الفصل الخامس، "المعايير الإنسانية من أجل تحقيق الجودة والمساءلة"، فيقدم المؤلف مجموعة من المبادرات والمقترحات التي أصبحت جزءًا رئيسًا من العمل الإنساني، مثل مدونات السلوك، والميثاق الإنساني والحدود الدنيا للمعايير، وغيرها من الأدلة والإرشادات التي تحكم سلوك الناشطين الإنسانيين على المستويات الفردية والمؤسسية، بناء على مبادئ لا ضرر ولا تحيّز، والحق في الحماية وتقديم المساعدة للمتضررين في المطالبة بحقوقهم.
وفي الفصل السادس، "حوكمة المنظومة الدولية الإنسانية"، فيُعنى المؤلف بمجال فاعلي العمل الإنساني وأطرهم الهيكلية والمؤسسية، فيركّز على منظمة الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسة وأدوار وكالاتها وهيئاتها المؤثرة في العمل الإنساني، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة، وبرنامج الغذاء العالمي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. كما يورد مكونات الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الوطنية، ومقتضيات ومهمات كل منها.
التمويل والتغيرات
أما في الفصل السابع، "تمويل العمل الإنساني"، فيعدد المؤلف أنواع التمويل الذي يقدمه المانحون للمحتاجين، من حيث أنواع أولئك المانحين ومستويات التنسيق بينهم، وأهم الروابط التي تحكم توجهات صرفهم للمساعدات. كما يتحدّث عن قيمة المساعدات المادية وحيثيات نموها الزمنية، ونسب توزيعها واقتسامها بين المستفيدين، والنزعات السائدة في التمويل الإنساني الحديث، ودور التعاطف الديني والقطاع الخاص في ارتفاع حجم المساعدات الإنسانية المستمر، إضافة إلى أهم التحديات التي ما تزال تواجه تمويل العمل الإنساني، مثل الفجوة بين المطلوب والمتوافر، والعوائق القانونية من جرّاء تشريعات مكافحة الإرهاب، وصعوبات التنسيق بين المانحين، والدور السلبي للعلاقة بين الترويج الإعلامي وزخم ضخ الأموال.
وأخيرًا في الفصل الثامن، "التغييرات في المشهد الإنساني: الواقع والمستقبل"، بيّن المؤلف بعض التغييرات حول مسائل تتعلق بتجريم العمل الإنساني، وارتباطاته بنشاطات الإرهاب والجريمة المنظمة، وغيرها من مظاهر الفساد الأخلاقي والمالي التي تكررت في عدة مناسبات، فضلًا عن اختلاط أجندات الربح والسياسة مع أجندات الإنسانية، والعلاقة الجدلية بين المنظمات الإنسانية والجيوش والقطاعات الأمنية الخاصة والتشكيلات المسلحة. وتحدّث المؤلف أيضًا عن الأزمات اللامتناهية التي تواجه القطاع الإنساني في مقابل انعدام الحلول، وما يرتبط بذلك من فقدان المهنية والحرفية في الأعمال الإنسانية، ودور ما سبق في تحطيم المبادئ الإنسانية، وتضييق الخناق على العمل الإنساني.