صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب السياسة الخارجية التركية: الاتجاهات، التحالفات المرنة، سياسة القوة، يجادل فيه مؤلفه عماد قدورة بأن السياسة الخارجية التركية الحالية تعتمد على تقوية العلاقات مع القوى الكبرى في الغرب والشرق معًا، ضمن تحالفات مرنة تتجنّب الاعتماد على حليف مُهيمن، وتستفيد من مزايا الاتجاهين، وتُوازِن أحدهما بالآخر في حال التوتر.
مع ذلك، تواجه تركيا معضلةً في بناء هذه التحالفات؛ إذ لا يمكن الاعتماد عليها كليًا، كما تنطوي على التنافس والاختلافات السياسية. لذلك، تعمل على تطوير اتجاه ثالث لتحقيق المصلحة القومية هو تعزيز الاستقلالية من خلال الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي اقتصاديًا ودفاعيًا، وانتهاج السياسة الحازمة التي تجمع بين الدبلوماسية وسلوك القوة.
يفصّل الكتاب في السياسة الخارجية الحالية واتجاهاتها وتحالفاتها، ويدرس الأحداث والمتغيرات المحلية والخارجية، في الفترة 2010-2021، التي أثّرت في بلورتها، ويناقش مدى ارتباطها بسياسات سابقة منذ حرب الاستقلال وتأسيس الجمهورية عام 1923. فقضايا السياسة الخارجية ترتبط بتيار سائد وشعور قومي مشترك بمكانة تركيا، لكن تحقيق غاياتها يعتمد على نهج الحكومة وفاعليتها وسلوكها.
جذور السياسة الخارجية التركية
يتألف الكتاب (272 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من أربعة فصول. في الفصل الأول، "جذور السياسة الخارجية التركية وتطورها: 1923-2011"، يبين المؤلف اهتمام السياسة الخارجية بعد تأسيس الجمهورية مباشرة بتعزيز الاستقلال والتوازن في العلاقات الدولية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، مع تفضيل العزلة الإقليمية والحياد الدولي. ويوضح كيفية تغيّر اتجاه علاقات أنقرة في أثناء الحرب الباردة من خلال التحالف مع الغرب، والذي لا يزال قائمًا حتى الآن. كما يركز على محاولة تركيا القيام بدور إقليمي بعد عام 1991، وهي التجربة التي كانت مُلهمة لتدشين دور إقليمي نشط منذ عام 2002. ثمّ يركز الكتاب على جذور تشكّل السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية ومعالم هذه السياسة حتى عام 2011. يكتب قدورة: "حافظت مبادئ السياسة الخارجية في عهد حزب العدالة والتنمية على المبدأ الأساسي التقليدي ’سلام في الداخل، سلام في العالم‘؛ إذ يعتقد الحزب أنّ نهجه الجديد رغم تبنيه سياسات مختلفة عن الماضي، فإنه سيؤدي إلى الترويج للسلام والديمقراطية والحرية والأمن في الداخل والخارج، ويعزز مصالح تركيا بطريقة سلمية. وإضافة إلى ذلك المبدأ، اشتملت السياسة الخارجية على مبادئ وسياسات جديدة راجت في العقد الأول من حكم الحزب، مثل: التوازن بين الأمن والديمقراطية في الدولة من أجل تأسيس مجال للتأثير في البيئة المجاورة، وسياسة ’صفر مشاكل‘ مع الجيران، وتطوير العلاقات الجيدة مع المناطق المجاورة وما وراءها، وتأسيس علاقات متعددة التوجهات مع الأطراف الدولية على أساس الوفاق وليس التنافس، والدبلوماسية المتناغمة عبر الوجود في كل المنظمات الدولية والإقليمية".
متغيرات محلية وخارجية
في الفصل الثاني، "المتغيرات المحلية والخارجية المؤثرة في السياسة الخارجية: 2011-2021"، يناقش المؤلف العديد من التغيرات الجوهرية التي شهدتها الساحة المحلية، وكذلك الخارجية ذات الصلة بالعوامل المحلية، خلال الفترة 2011 -2021، ليبين مدى تأثير هذه العوامل في السياسة الحالية. يضم الفصل تسعة محاور تتعلق بتوتر العلاقات مع إسرائيل، وتأزم العلاقات مع كلٍ من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وارتباط ذلك بأحداث وعوامل محلية وإقليمية مثل حادثة سفينة "مافي مرمرة"، واحتجاجات حديقة "جيزي بارك"، وقضية "خلق بنك"، ومحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، وعلاقة ذلك بالصدام بين حزب العدالة والتنمية وحليفته حركة غولن. كما يرصد تأثير متغيرات أخرى في السياسة الخارجية مثل صعود القوميين وتحالف بعضهم مع حزب العدالة والتنمية، والانتخابات المتوالية خلال الفترة 2019-2014، والتحول دستوريًا نحو النظام الرئاسي، ومكانة الرئيس في البنية الجديدة لاتخاذ القرار الخارجي، وإعادة تأسيس العلاقات بين السلطة التنفيذية والمؤسسة العسكرية، والتي تؤثر بدورها في حشد التأييد للنهج الجديد للسياسة الخارجية.
وتحت عنوان "الدبلوماسية الشخصية"، يقول المؤلف إن تبني تركيا النظام الرئاسي في عام 2017، ثمّ تعزيز سلطة أردوغان، أديا إلى صعود الدبلوماسية الشخصية في السياسة الخارجية التركية بشكل واضح خلال السنوات القليلة الماضية. يكتب: "لقد أبرزت شخصية أردوغان وتأثيره في العقدين الماضيين الكثير من الجدل السياسي ليس في الشأن الخارجي فحسب، وإنما في السياسة التركية المعاصرة برمتها. ولا يمكن أن يُصنفّ أردوغان وفق توصيفات مبسّطة، فهناك نقاش مستمر حول سمات شخصيته وكيفية تأثيرها في خيارات تركيا وتوجهاتها السياسية". وبحسبه، يُعرف عن أردوغان أن ثمة سمات شخصية دفعته إلى المقدمة، "ومنها مثلًا اعتقاده الجازم بأن في إمكانه ’التأثير في ما يحدث في البيئة السياسية‘ من حوله في تركيا والعالم، وهذا ما جعله ’أكثر اهتمامًا ونشاطًا وانخراطًا في عملية صنع السياسة‘، و’الاعتقاد بالقدرة على السيطرة على الأحداث، وهو ما يؤدي إلى توجه سياسي استباقي‘، و’إدراك أن الحواجز التي تحول دون العمل الناجح يمكن التغلب عليها‘".
تحالفات مرنة واتجاهات
في الفصل الثالث، "التحالفات المرنة والاتجاهات في السياسة الخارجية الجديدة"، يجادل قدورة في ثلاث سمات للسياسة الخارجية التركية الحالية: أنها ذات نزعة استقلالية، وإن اتجاهاتها متجددة نحو الشرق أو الغرب أي إن لها جذورًا في فترات مختلفة من تاريخ الجمهورية ومن المحتمل أن تبقى كذلك في المستقبل، وأنها تميل إلى مرونة التحالفات بدلًا من الاعتماد على حليف مُهيمن، ومن ثمّ تسعى إلى موازنة علاقاتها بالقوى الخارجية الفاعلة، مع وجود ضوابط لكل اتجاه. ويناقش ذلك كله من خلال أربعة محاور: يركز أولها على ماهية النزعة الاستقلالية في السياسة الخارجية في تركيا؛ ويبحث ثانيها في سعي أنقرة الحثيث نحو تعزيز الاستقلالية وتقليص الاعتماد على القوى الكبرى من خلال محاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي وذلك بزيادة قدراتها الاقتصادية والدفاعية؛ ويناقش ثالثها محاولة استخدام تحالفات مرنة مع القوى الكبرى لموازنة العلاقات بينها على أساس مصالح أنقرة بالدرجة الأولى؛ ويحلل رابعها مدى تأثير متغيرات محلية مثل أفول الغولنيين وصعود القوميين في العلاقات تجاه الغرب والشرق، ومدى تأثير القوميين الفعلي في اتجاه السياسة الخارجية الحالية.
يكتب قدورة: "مع تنامي قدراتها المادية الاقتصادية والدفاعية وانخراطها في سياسات استباقية قائمة على مصالحها وأمنها القومي، تسعى تركيا إلى تقليص دورها الوظيفي التابع من خلال تحالفات مرنة ... محاولة الاستفادة من مزايا التحالف مع الغرب والشرق معًا، وفي الوقت نفسه إيجاد المُوازِن في حال توتر العلاقات مع أحدهما". ومؤخرًا، "اكتسبت فكرة التحالفات المرنة أهميةً نتيجة تزايد التوترات مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة، وتطور مستوى العلاقات الثنائية الاستراتيجية مع كل من روسيا والصين وإيران من جهة أخرى. وقد ساهمت متغيرات محلية في ذلك أيضًا بعد إقصاء ما يسمى ’الغولنيون‘ الداعمون للاتجاه الغربي، وصعود القوميين الداعين إلى علاقات أقوى مع الشرق".
سياسة القوة
في الفصل الرابع والأخير، "السياسة الخارجية الجديدة وسياسة القوة"، يتناول المؤلف التغير في سلوك السياسة الخارجية الحالية من خلال استخدام سياسة القوة، منذ عام 2016، التي تظهر من خلال النشاط الخارجي العسكري بأنواعه المختلفة. يضم الفصل خمسة محاور: الانتشار العسكري وتأسيس القواعد في الخارج كما في قطر والصومال وغيرهما؛ التدخل العسكري المباشر في سورية؛ السياسة البحرية الحازمة في شرق المتوسط؛ التدخل العسكري في ليبيا وصلته الوثيقة بالسياسة البحرية؛ التدخل العسكري في أذربيجان بوصفه خيارًا استراتيجيًا لتركيا في اتجاهها نحو الشرق.
في نهاية الكتاب، يخلص المؤلف إلى تسعة استنتاجات أساسية يناقش فيها: معضلة بناء التحالفات، ومدى تجدُّد السياسة الخارجية الحالية من سياسات سابقة، وما يترتب من نتائج مستقبلية على كونها سياسة متجدِّدة، ودور الرئيس أردوغان في السياسة الحالية وتوجهاتها، ومدى تأثير صعود القوميين، ومدى تجاوز السياسة الراهنة الانقسام التقليدي العلماني – الإسلامي، ومكانة العلاقة المدنية – العسكرية الجديدة في السياسة الخارجية، وتأثير توسيع مفهوم الوطن والتدخلات العسكرية الجديدة في خطاب السياسة الخارجية وسلوكها واتجاهاتها.
حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط، وعلى الماجستير في الدراسات الاستراتيجية والدفاعية. يعمل باحثًا ومديرًا لقسم التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ عام 2013. عمل باحثًا ومحررًا أول في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية (1998-2012) أشرف خلالها على سلاسل النشر والتحرير العلمي؛ وباحثًا في مركز دراسات الشرق الأوسط، والمركز العلمي للدراسات السياسية (1994-1997). صدر له خمسة كتب منها: تركيا: استراتيجية طموحة وسياسة مقيدة - مقاربة جيوبولتيكية (2015)؛ ومستقبل السياسات الدولية تجاه الشرق الأوسط (1996). كما صدر له خمس عشرة دراسة محكّمة منها: "الأهمية الجيوبوليتكية للخليج في استراتيجية الهند" (2020)؛ و"السلفية في تركيا: تحديات الانتشار في مجتمع متصوف" (2017)؛ و«The Turkish Model: Acceptability and Apprehension» (2010)؛ و«The Regional Geo-sectarian Contest over the Gulf» (2018)؛ و«External Initiatives for Regional Security in the Gulf» (2021).