صدر عن "سلسلة أطروحات الدكتوراه" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب العرب في استراتيجيات الهيمنة الأميركية (1991-2008)، تدرس فيه فوزية الفرجاني موضوع الهيمنة الأميركيّة واستراتيجيّاتها، محاولة بمنهج متعدّد الزوايا المساهمةَ في موضوعٍ خلافي بين الباحثين من ذوي التخصّصات العلمية المتنوّعة. بحثت المؤلفة المقدّمات والسياقات التي هيّأت للهيمنة الأميركية مشروعًا وتجربة، والوقائع التي تجلّت فيها تلك الهيمنة في تاريخ العرب المعاصر، كما تعرّضت لدراسة استراتيجيات هذه الهيمنة وتقييم مرتكزاتها النظرية وامتداداتها العملية، إذ جمعت أقسامه بين مستويين: أحدهما إشكالي يبحث في مواضيع متداخلة، كالهيمنة والاستراتيجيا والإرهاب والحرب، والثاني تاريخي ينظر في الوقائع التي جمعت الولايات المتحدة والعرب، مثل حرب الخليج الثانية وتفجيرات أيلول/ سبتمبر والحرب على الإرهاب.
سياقات الهيمنة الأميركية
يتألف الكتاب (464 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ثمانية فصول موزعة في أربعة أقسام. في القسم الأوّل، "الهيمنة الأميركية واستراتيجياتها: بحث في السياقات والمقاربات" فصلان. في الفصل الأوّل، "الهيمنة الأميركية: سياقات وأطروحات"، تهتم الفرجاني بسياقات الهيمنة الأميركية وأبرز المقاربات فيها، وتضعها في سياقين: سياق تاريخي يتمثّل بتاريخ الاقتصاد السياسي العالمي، ونظري يتعلّق باختلاف الدارسين بين أطروحتَي الدولة المهيمنة والإمبراطورية. وتتناول الفرجاني بالبحث مختلف مقاربات الإمبراطورية الأميركية تشريحًا ونقدًا وتقييمًا واستشرافًا. تقول الفرجاني: "أطروحة الإمبراطورية الأميركية هي في الحقيقة أطروحات مختلفة يوحد بينها السعي إلى إثبات حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة إمبراطورية، لذلك وردت صور هذه الإمبراطورية مختلفة جينيالوجيًّا وجغرافيًّا ودلالة سياسية وأيديولوجيا وتوصيفًا وتقييمًا. ونعتقد أن في إنكار التاريخ الإمبراطوري الأميركي تغافلًا عن حقيقة تاريخية لا يمكن أن يخفيها إلا حماس وطني أو عمى تاريخي. وفي المقابل، يبدو من يعتبر الولايات المتحدة إمبراطورية بعد أن ولى عهد الإمبراطوريات بعد الحرب العالمية الثانية، كمن ينظر إلى عالم جديد بمنظار قديم، أو من يعجز عن اجتراح تسميات جديدة ملائمة لوضع مستحدث، فالاستمرار في اعتبار الولايات المتحدة إمبراطورية من النمط التقليدي يعني ضمنًا الاستمرار في اعتبار بريطانيا إمبراطورية كذلك، ما دامت أستراليا تابعة شكليًّا للتاج البريطاني".
وفي الفصل الثاني، "الاستراتيجيا: تعريفاتٍ وأصنافًا"، تهتم الفرجاني بأصناف الاستراتيجيا وسياقاتها وتقييماتها، كما تركز على الاستراتيجيا الكبرى، لأنّ البحث فيها يساعد على تقييم ملامح الهيمنة الأميركية ومختلف موارد القوّة التي ترتكز عليها. وهي ترى هذا الباب ضروريًّا للبحث في الهيمنة الأميركية على العرب. في رأيها، في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، "لم تعتمد الولايات المتحدة نوعًا واحدًا من الاستراتيجيا الكبرى؛ إذ نفذت استراتيجيا كبرى ترتيبية في علاقتها بالكتلة السوفياتية واستراتيجيا كبرى وسطًا في علاقتها بأوروبا الغربية (...) ويمكن أن نستنتج أن الاستراتيجيا الكبرى الوسط إطار عام حاضن أو مشروع طويل المدى، وأن الاستراتيجيا الكبرى الترتيبية محتواة أو مشروع أقصر مدى، وهذا يعني أن الاستراتيجيا الكبرى الترتيبية )التصدي للتأثير والتوسع السوفياتيين مثلًا) نوع من الآلية المهمة من آليات بناء الاستراتيجيا الكبرى الوسط (بناء النظام الدولي الليبرالي)، فبناء هذا النظام يستوجب بالضرورة مقاومة النظام الاشتراكي المناقض له".
أميركا ومجالاتها الحيوية
في القسم الثاني، "الولايات المتحدة الأميركية ومجالاتها الحيوية بعد الحرب الباردة"، فصلان آخران. في الفصل الثالث، "الولايات المتحدة والعالم في أثناء الحرب الباردة وبعدها"، تدرس الفرجاني المشروع الهيمني الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا يتيح لها وضع هذا المشروع في سياقه التاريخي النظرَ في التجربة الهيمنية الأميركية واستراتيجياتها، الرسمية وغير الرسمية والفردية والمؤسساتية، تصميمًا وإنجازًا. تكتب: "إن الهيمنة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية تتنزل في سياق عام يضرب بجذوره في تاريخ الولايات المتحدة وتاريخ تعاملها مع العالم من جهة، وفي تاريخ السيطرة الغربية على العالم منذ أن خرج الغرب من جلباب القرون الوسطى من جهة أخرى. ويبقى من الضروري أن نتفحص خصائص هذه الهيمنة عبر زمنَي الحرب الباردة وما بعدها، ومَواطن الامتداد في تجربة الولايات المتحدة الهيمنية بين هذين الزمنين على الرغم من اختلافهما".
أما في الفصل الرابع، "الشرق الأوسط في الجغرافيا السياسية الجديدة"، فتدرس الباحثة منزلة منطقة الشرق الأوسط في الجغرافيا السياسية المستجدّة. ونظرًا إلى ما تثير عبارة الشرق الأوسط من إشكالات، تفضّل الفرجاني النظر في مكانة الشرق الأوسط في الرؤية الأميركية والبحث في جذورها وقراءتها قراءة تفكيكية. ثمّ تدرس أسس اعتبار الشرق الأوسط مجالًا حيويًّا أميركيًّا وملامح الهيمنة الأميركية عليه ومرتكزاتها. تقول: "إننا في محاولتنا توضيح المكانة التي يحتلها الشرق الأوسط في الجغرافيا السياسية الجديدة لم نفصل بين مرحلة الحرب الباردة والفترة التي تلتها، فمنزلته فيها بعد الحرب الباردة امتداد لما كان عليه الأمر أثناءها بل هي امتداد لمراحل سابقة من الهيمنة الغربية على المنطقة، فرغم أن هيمنة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط تبدو متصاعدة ومتنامية، فإن دراسة مكانة الشرق الأوسط في الجغرافيا السياسية الجديدة وكأنها منعزلة عما سبقها قد تثير بعض التساؤلات ومواطن الالتباس، ولذلك استبدلنا الدراسة الكرونولوجية بأخرى قائمة على محاور اهتمام، لكن ذلك لا يعني تغييب البُعد الكرونولوجي في الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط".
حرب الخليج الثانية واستراتيجية الهيمنة
في القسم الثالث، "حرب الخليج الثانية واستراتيجية الهيمنة: بحث في المسارات والأدوات"، فصلان. في الفصل الخامس، "حرب الخليج الثانية: السياقات والتصوّرات"، تدرس المؤلفة حربَ الخليج في مراحل التصوّر والإعداد، ما تطلّب منها العودة إلى مخطّطات احتلال منابع النفط التي يعود وضعُها إلى سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، كما العودة إلى البحث في جذور النظام العالمي الجديد الذي أعلنه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب وصِلَتِه المباشرة بحرب الخليج وبعض أبعاده الجيوسياسية والإمبريالية. برأيها، تتنزل حرب الخليج الثانية في سياقين، تاريخي وجيوسياسي، "إنها تاريخيًّا امتداد للموروث الاستعماري الغربي، فعلى الرغم من أن حدود الدول الغربية، وفي صدارتها الولايات المتحدة، لم تزدد توسعًا، وأن هذه الدول لم تؤسس مستوطنات جديدة، فإن الهيمنة الغربية تكرر نفسها بصورة مختلفة في بداية التسعينيات، فقد استمرت بقايا النزعة الاستعمارية في غرب آسيا وشمال أفريقيا حتى نهاية الحرب الباردة، وتعززت تقاليد التدخل الغربي في الشؤون العربية بشكل درامي في حرب الخليج في عام 1991".
وفي الفصل السادس، "حرب الخليج الثانية: الأهداف والأدوات"، تبحث المؤلفة في أهداف الحرب المعلنة والمضمرة، ووسائل القوّة التي استخدمتها الولايات المتحدة في مختلف جبهاتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والدعائية. وتصل الفرجاني في نهاية الفصل إلى تقييم الاستراتيجيا الأميركية في هذه الحرب. تقول الفرجاني: "إن تتبع حرب الخليج بمختلف مراحلها: الحرب المتصورة والحرب الفعلية وتداعياتها المباشرة وبعيدة المدى من جهة، وبمختلف أدواتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والدعائية من جهة أخرى، يمكن أن يساعد في تقييم طبيعة سلوك الولايات المتحدة الخارجي تجاه الشرق الأوسط. تبدو دولة ذات مطامح إمبراطورية، تتمدد مصالحها، وتتنوع أشكال تدخلها والخطوط التي ترسمها على الرمال. ومحركات هذا السلوك ودوافعه كثيرة، أهمها أن عقلها المدبر يتمثل الشرق الأوسط في صورة التابع (المستعمرة)، ولذلك يخطط للتدخل العسكري فيه وينفذ مخططاته، فهو ليس عدوًّا تحتويه ولا صديقًا تتعاون معه".
من ليس معنا فهو ضدّنا
في القسم الرابع، "11 أيلول/ سبتمبر وأطروحة ’من ليس معنا فهو ضدّنا‘: بحث في الإرهاب"، فصلان. في الفصل السابع، "الرواية الرسمية الأميركية لتفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر وتداعياتها"، تهتم الفرجاني بالرواية الرسمية لتفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر، وتفكّك أطروحة "من ليس معنا فهو ضدّنا"، مستهلةً الفصل بالبحث في دور المحافظين الجدد في التخطيط للتفوّق الأميركي في تسعينيات القرن العشرين من جهة، ودور أسامة بن لادن وجماعته في إعلان الحرب على الولايات المتحدة من جهة أخرى. ثمّ تدرس خلفيّات التبنّي الرسمي للأطروحة وتداعياته، لتصل في آخر الفصل إلى استعراض الجهود الرسمية لخوض الحرب على الإرهاب في بعديها العسكري بوصفها حربًا ميدانية، والفكري بوصفها حرب أفكار. تقول الفرجاني: "لا يمكن فصل أطروحة ’من ليس معنا فهو ضدنا‘ عن منطق القوة والعقلية السياسية السائدة لدى المسؤولين الأميركيين، ولا عن استراتيجية تبرير الحرب على الإرهاب، فهي جزء لا يتجزأ منها، ومن شأنها أن تجعل معارضة الحرب صعبة قبل شن الحرب وفي أثنائها. ولئن انحصر طرفا هذه المعادلة في البداية في الاختيار بين الولايات المتحدة والإرهابيين، فقد تطورا إلى اختيار بين قوى الخير ومحور الشر، ومنه إلى اختيار بين الحضارة والبربرية، ومنهما إلى الاختيار بين تشجيع الحرية والإصلاح في الشرق الأوسط الكبير وأعداء الحرية والإصلاح في هذه المنطقة".
وتتناول الفرجاني في الفصل الثامن والأخير، "الجهود غير الرسمية وتداعياتها: بيان المثقّفين الستّين أنموذجًا"، الجهود التي بُذلت من خارج الإطار الرسمي، معتمدة بيان المثقّفين الستّين أنموذجًا، وفيه تعرّف البيان وأبرز الردود العربيّة عليه، وتقدّم قراءة تفكيكيّة باعتباره خطابًا سياسيًّا ولاهوتيًّا واستدلاليًّا. كما نبحث في مجالات تقاطعه مع الردود العربيّة وتباعده عنها. ثمّ تختم بتقييم آفاق الحوار الذي افتتحته ونَسَقِه ونتائجه العملية. عن البيان، تقول الفرجاني: "إن قارئ البيان يكتشف من دون كبير عناء أن موقعيه يمثلون تلك الجوقة التي تحدّث عنها بعض المثقفين الأميركيين الآخرين الذين عارضوا حرب بلادهم على أفغانستان، وهي الجوقة التي تحتفل بالقوة المدمرة الفظة عن طريق الخطابة التي تُلحِق هذه القوة بـ ’القيم الروحية‘. فلم تكن مهمة موقعي البيان انتقاد هيمنة الولايات المتحدة على العالم أو تدخلها العسكري فيه، وإنما سخّروا أقلامهم لتوقيع بيان يسوِّغ هذه القوة ويضعهم مع أصحاب القرار في صف واحد". فعندما يكون اليمين الديني في السلطة، لا غرابة في أن تتزاوج السياسة والدين والثقافة أو تلتقي في شكل مكشوف. وما يمكن أن يبعث على القلق في ذلك هو أن يثبت التاريخ أنه قادر على إعادة نفسه خلافًا لما نظن، وأن يعيد إلى العالم حروبًا شُنّت باسم الدين فمزقته شر تمزيق وجرّت ويلات ظلَّ العالم يحصدها خلال عدة أطوار من الزمن.
باحثة تونسيّة حاصلة على الماجستير والدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربية في اختصاص الحضارة من كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس - تونس. تدور اهتماماتها البحثية على المواضيع المندرجة ضمن علاقة العرب بالعالم المعاصر، كالعلاقات العربيّة - الأميركية وقضايا الإرهاب والتطرّف وأدوار المثقّف والخبير في سياق الزمن الأميركي. شاركت في عدّة ندوات ومؤتمرات علمية دولية. صاحبة منشورات في مجلّات علمية وكتب جماعية محكّمة.