صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب في معنى الأرض – استعادة الذات الفلسطينية، يهتم فيه مؤلفه بلال عوض سلامة بمسألة الأرض وأهميتها للفلسطيني، باعتبارها القاعدة الإنتاجية التي فقدها بالتطهير العرقي في عام 1948، والقيمة المعنوية والرمزية والثقافية لكرامته، وكيف أن الفلسطيني فقد القدرة على إعادة إنتاج ذاته ومصيره ومستقبله بفقدانه شروط إنتاجه، فاستعاض عن الأرض بالمنظومة القيمية والثقافية والرمزية والاجتماعية التي ساعدته في مراحل عدة في الصمود والنضال.
يتألف هذا الكتاب (208 صفحات بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مقدمة وخاتمة، وبينهما خمسة فصول.
الأرض: قيمة ومعنى
في الفصل الأول، "في معنى الأرض وقيمتها للمستعمر"، يقول سلامة إنه حين تُستعمَر الأرض وتُستَلَب، "يُستعمَر في الوقت نفسه جزء من الحياة، إن لم نقل الحياة كلّها، بما يعنيه ذلك من مصادرة أشكال الحياة كافة؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للشعوب الأصلية. واستعمار الأرض يعني أيضًا الاستيلاء والاستلاب كبنية نفسية وجسدية للشعوب الأصلية. فاحتلال الأرض يتزامن مع احتلال عقول المستعمَرين وأجسادهم، بمعنى السياسة البيولوجية/ الحيوية والسلطة السيادية". وبحسب سلامة، "تقود عملية فصل الفلاح عن أرضه إلى تغيير جوهري في السمات الاجتماعية والتقليدية والثقافية له، من بنية العائلة الممتدة أو النووية ودورها، وانتزاع طابع المعنى والقداسة للأرض والعمل فيها ضمن الشرط الاستعماري، والاعتداء على عالم المعنى وتدميره، لإيجاد واقع بل تناقض بين الأرض الواقعية والمتخيلة لديه، نتيجة عزله في محتشدات ومعازل مكانية، تعمل على صوغ هوية موقعية لهم لا وطنية ضمنها وشرطها الاستعمار".
الأرض: قيمة ووجود
يرى سلامة في الفصل الثاني، "الأرض الفلسطينية كقيمة ووجود"، أن الأرض تُعدّ القضية المركزية التي تشكل العصب الأساسي في حياه الشعب الفلسطيني ومصيره في الماضي والحاضر والمستقبل، "فتشابك وشائج هذه العلاقة بين الفلسطيني كشعب والأرض باعتبارها تضمن الحياة، فحدود هذا المعنى لها يتجاوز وجوده الفيزيقي المادي البحت، ولا تقتصر هذه العلاقة على حيزه الجغرافي، بل تأتي أهميتها من كونها حاملة الأبعاد الحضارية والثقافية والرمزية والاقتصادية والكيانية للوجود الإنساني للفلسطيني. فالسيطرة على الأرض بالنسبة إلى الفلسطيني من حيث الحيازة والاستخدام هي سيرورته وكينونته".
يضيف المؤلف أن بال الفلاح لم يكن مشغولًا بالملكية بالمعنى القانوني؛ "لأن الارتباط بها والانتماء إلى الأرض يضمنهما العمل فيها، والاستفادة منها عبر أجيال متوارثة، ومتعارف عليها". وفي اعتقاده ارتبط الفلسطيني، "وأعني هنا الفلاح بحق، بالأرض، فتشكلت صورته لذاته وعلاقاته بالآخرين. وارتباطه بها يكاد يكون غريزة ترتقي إلى درجة المقدس، فهي التي تشكل جوهره الوجودي وتاريخه بالتوارث وذاكرته الجمعية منذ الأجداد، كحقيقة لا تقبل النزاع بالمعنى الإنساني والمعنى التاريخي، فلا يمكن التنازل عنها لأن المساس بها يعدّ مساسًا بشرفه وكرامته".
سيطرة على الأرض والإنسان
في الفصل الثالث، "ممارسات السيطرة على الأرض والإنسان الفلسطيني"، يعالج سلامة ممارسات السيطرة والهيمنة ضد الفلسطيني، ويتعامل معها باعتبارها مجموعة من الأفعال والأدوات والوسائل والقوانين؛ باعتبارها منظومة بنيوية استعمارية تهدف إلى السيطرة والهيمنة في هندستها الأرض والفلسطيني وصوغهما عبر قرن من الصراع والتفكيك. ويذهب المؤلف إلى أن إفراغ الأرض الفلسطينية من سكانها هدف جوهري في عقيدة الحركة الصهيونية، ومن أجل تحقيق أهدافها لجأت هذه الحركة إلى تكتيكات مختلفة، "فلم يكن العنف المباشر هو الوسيلة الوحيدة، بل إلى جانب ذلك استخدمت طرائق عدة من نشر الشائعات بين السكان الفلسطينيين كحرب نفسية تدبّ الرعب والخوف بين صفوفهم، وهو ما يعيدنا إلى الاستراتيجية نفسها التي استخدمها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حين قال أحد الجنرالات: ’إن الذعر... سيرغمهم على الخضوع‘" [...] لهذا، يفهم من تعميم مشاهد القتل والتعذيب أيضًا والإعلان عنها تدمير القاعدة الوجودية للإنسان بصيغة الجمع، الذي ما زال في قيد الحياة"؛ فالاستيلاء على الأرض هو الاستيلاء عليها بصفتها قاعدة تنتج الهوية والكيانية والوجود، "ونتعامل مع الأرض هنا باعتبارها بيئة نفسية وجسدية بمعنى جيوبويتيكس (Geopoetics)، لأن الفصل بين الفلسطيني والأرض يحقق فصلًا عاطفيًّا عن المكان".
هندسة المشهد الفلسطيني
يضيف سلامة في الفصل نفسه أن هندسة المشهد والمكان الفلسطيني وإعادة صوغه، بصفتهما سياسة معلنة تبنّتها العقيدة الصهيونية وطُبِّقَتا للاستيلاء على الأرض والموارد والثروات الطبيعية والمائية، "هدفتا إلى هندسة المشهد من خلال تهويد المكان كاستراتيجية لتقليص الحيز المكاني للأرض الفلسطينية، والتحكم في الحيز المكاني وفي الفلسطيني والسيطرة عليهما".
ينشغل المؤلف، كذلك، بفهم العلاقة بين الأرض والفلسطيني وتاريخ العلاقة المتبادلة بينهما من خلال الذاكرة الجمعية، "لهذا نتكئ على مقولة تحليلية هي أن فقدان أحد الثلاثية المقدسة )الأرض، التاريخ، الذاكرة) سيقود إلى الموت الاجتماعي في صورته المتطرفة كخيار أولي للفلسطيني، أو في أقل تقدير تفكك عملية إدراك الذات الفلسطينية ووعيها بذاتها وتشوهها وتحللها، باعتبارها ذاتًا ليست بيولوجية فحسب بل ذاتًا بيولوجية غير مكتملة، وهي نتيجة مؤكدة للمحو الثقافي لهوية الفلسطيني وكينونته الذي يمارسه الاستعمار الصهيوني بشكل ممنهج".
إلى ثقافة الأرض نعود
في الفصل الرابع، "نحو استعادة الذات الفلسطينية بالعودة إلى ثقافة الأرض"، يسأل سلامة: هل تشكل الأرض ثقافة منيعة للفلسطيني؟ وهل تكون معالجة مفهوم الثقافة الفلسطينية الذي تعزز صموده، أو حتى تقود إلى سباته الاستعماري ضمن السياق الاستعماري والمتمحور حول الأرض والاستلاب والتحرر؟ وهل الالتزام تجاه الأرض باعتبارها بنية فوقية في النضال يجعله ملتزمًا في شريحة، أطلق عليها مسمى "المثقف الفلاح"، بغض النظر عن بنيته الفلاحية أو المدينية أو البدوية التي أنتجته ويعيد إنتاج نفسه وفقًا لها؟ وتقوده هذه الأسئلة إلى النحت المفاهيمي والنقد النظري للقوالب الجاهزة للخروج باستخلاصات ملتزمة، "تحاول جاهدة توضيح معالم الطريق لاستعادة الذات الفلسطينية المقاومة، ضمن مشروع تحرري في ميدانَي الثقافة والعودة إلى الأرض، باعتبارهما الحلقة الأهم في صراعنا مع الاستعمار الصهيوني، انطلاقًا من الدفاع عن ثقافة الفلاح، بما ينطلي على منظومة وقيم وارتباط وانتماء وفداء وهوية وتضحية وكرامة وعقل جمعي وذاكرة محلية وجمعية".
يجد المؤلف أن الفلسطيني استعاض عن فقدان أرضه، التي هي وسيلة إنتاجه، بالرموز والإشارات والقيم الفلاحية المنبثقة من الأرض والمستمدة منها، "واعتُبِرَت هوية ثقافية جامعة للهوية الفلسطينية، كان ذلك في المحتشدات الفلسطينية في الداخل أو بالخارج، فاستندت إلى ’الأرض، الناس والحكاية التاريخية الجامعة‘، ووظفت هذه المفاهيم والقيم والرموز في صناعة هوية الفلسطيني الثائر المقاوم وصوغها وتجديدها، ونجد تجسيداتها حاضرة في تعبيراتها الأدبية والشعرية والغنائية، والمسرح الثوري المقاوم، وتؤدّي دورها في شحذ هوية الفلسطيني ونضاله، وقد استندت أغلبيتها إلى الرموز والقيم الفلاحية".
تنمية بالكرامة
في الفصل الخامس، "الذات الفاعلة والتنمية بالكرامة"، يؤكد سلامة أن متتبع المشهد الفلسطيني يستطيع إدراك أنه لا يمكن تحقيق تنمية فلسطينية في ظل الاستعمار الصهيوني ما لم تُعَالَج السياقات التنموية بوصفها جبهة رئيسة من ميادين الاستقلال والتحرر؛ "لأن الاستعمار قائم على تدمير القدرات الإنتاجية والاقتصادية للمجتمعات المستعمَرة، ويسعى إلى رسملة علاقاته الإنتاجية التي تلحق البؤس بالأغلبية وتحرمها الأمن، وتجعلها تابعة للسوق الاستعمارية بعدما عُزِلَت بمحتشدات منعزلة، للسيطرة عليها وعلى مستقبلها". ووفقًا للمؤلف، تكون فكرة الكرامة التي يطمح إليها الفلسطيني بالفعل المقاوم الذي يوقظ الفلسطيني من سباته الاستعماري، "ويكتشف الفلسطيني الجديد الفاعل، كما حدث في الهبات الجماهيرية والحملات الشعبية والنضالية والعمل التنموي التحرري، ويكون الفلسطيني كذات فاعلة للتحرر من أشكال الهيمنة والسيطرة كافة".
يضيف سلامة: "تكون التوجهات التنموية هادفة إلى الانعتاق من التبعية لاقتصاد الاستعمار الصهيوني، والسيادة على الغذاء، والسيادة على الأرض أولًا وقبل كل شيء، تحت عنوان ’التنمية بالكرامة‘ التي تعزز قيمة الفلسطيني ومنعته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من خلال تبديل التوجهات التنموية من الخارج نحو الداخل، وسد الاحتياجات الرئيسية للمجتمع الفلسطيني، وتحديد الأولويات في ضوء اقتصاد الاكتفاء الذاتي بزراعة الحبوب والقمح والأساسيات واللزوميات، لا من أجل تصدير سلع أو منتجات زراعية كمالية كالزهور والفراولة. إن عنوان ’التنمية بالكرامة‘ هو ما يشير إليه جورج كرزم بالسيادة الفعلية على الغذاء، والذي عنى به ’الاقتصاد الوطني الشعبي المقاوم الذي يوفر مقومات الصمود الاقتصادي والمعيشي الضروري لمواجهة الاحتلال‘".