صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة مذكرات وشهادات، كتاب لعبد السلام جلود بعنوان مذكرات عبد السلام أحمد جلود: الملحمة (479 صفحة).
يتكوّن الكتاب من عشرة فصول وملحق بالصور، وهو مذكرات عبد السلام جلود الرجل ذي الدور الفاعل في تاريخ ليبيا الحديثة، وفي علاقات ليبيا العربية والإقليمية والدولية المتشعبة، في فترة مارست فيها بلاده دورًا مهمًا على مستوى العلاقات الدولية والحركات الثورية في العالم الثالث على نحو خاص، وفي مرحلة محددة من مراحل تطور العمل القومي العربي. وقد عاش الأحداث والوقائع في هذا السياق التاريخي من تجربته، بصفته فاعلًا سياسيًا ورجل دولة؛ تجربة امتدت على مدى لا يقل عن ثلاثين سنة، في مرحلة عاصفة وزاخرة بالتحولات التي ما زالت آثارها ومراجعتها وتقييمها ممتدة حتى يومنا. ولا يغيب عن هذه المذكرات البعد الإنساني المفيد في وصف الكاتب طفولته وصباه وتشكّل شخصيته. فهو بذلك يصف ظروف تشكّل نموذج للضباط الشباب الذين حلموا بالوحدة العربية والنهضة والتغيير وإعادة الاعتبار للحضارة الإسلامية في التصدي للهيمنة الغربية. وقد احتفظ الكاتب، على الرغم من مرور السنين، بنفس ثوري ونبرة حادة قاطعة، تمسّك بهما في سيرته السياسية على مدى هذا الكتاب.
من المتوقع أن تثير هذه المذكرات المهمة، وما تزخر به من معلومات وتفاصيل ووجهات نظر وتقييمات للأحداث والفاعلين الآخرين، النقاش، وربما السجال أيضًا. وهذه هي طبيعة أيّ مذكرات تتسم بالأهمية.
ليبيا الطريق إلى ثورة الفاتح
يتحدث الكاتب عن بداية مشواره مع الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي، منذ كانا طالبين يافعين، فقد وضعا في السجن معًا. ويقول في ذلك: "خلال التظاهرة الطلابية في سبها بولاية فزّان، أُلقي القبض عليّ مع طلبة آخرين، وتمّ الزج بنا في السجن. وضعونا داخل قاعة كبيرة مزدحمة وشديدة البرودة، وحصل كل واحد منّا على بطّانية واحدة، فافترشنا الأرض... وقبيل غروب شمس هذا النهار المشحون، علمنا أن معمّر القذافي عاد من مدينة مرزق، وقد اتجه إلى السجن مباشرة ليقول لمسؤول السجن: ’أنا معهم؛ إمّا أن تطلقوا سراحهم جميعًا أو فلتدعوني أكن معهم في السجن‘... ما إن دخل معمّر إلى العنبر حتى جلس إلى جانبي. وحتى تلك اللحظات لم أكن أعرفه من قبل. سألني: ’ما اسمك؟‘".
ويواصل الكاتب عرض تسلسل الأحداث، وصولًا إلى تأسيس حركة الوحدويين الأحرار، وما سبق ذلك من أحداث أجَّجت فكرة العمل الثوري في ذهنه، وخاصةً بعد تعرّفه إلى أفكار ثورية قومية عربية وبعثية وماركسية وغيرها؛ "وفي عام 1960، اختار التنظيم لجنة مركزية سُميت اللجنة المركزية لحركة الوحدويين الأحرار برئاسة الأخ معمّر القذافي وعضوية كلٍّ من عبد السلام جلود، محمد الزوي، سالم الطاهر الحضيري، إمحمد الحضيري، محمد خليل، سالم والي، عمر المحيشي، إبراهيم أبجاد، الهادي فضل. في عام 1963، اقترح الأخ معمّر أن يتوجه أعضاء الحركة إلى الكلية العسكرية، متخلّيًا عن أساس الحركة - عام 1959 - وهو التوجه إلى الجامعات والمعاهد العليا لتفجير ثورة شعبية تطيح النظام الملكي العميل، كما أنها تقوم على أساس التجذّر في الشعب لإحداث التغيير. كانت الحركة تقوم على أساس الصرامة في اختيار الأعضاء من حيث الالتزام والسلوك وحسن الأخلاق والاستعداد التام للتضحية، وأن تتوافر في العنصر المواصفات الثورية والاجتماعية والأخلاقية ’الملائكية‘"، ثم تحويل هذه الحركة إلى حركة عسكرية وما تبع ذلك من أحداث.
ثمّ تحدث الكاتب عن مراحل "التحضير للثورة". فيذكر أنه "في عام 1968، أبرم النظام الملكي العميل مع بريطانيا صفقة بشأن الدفاع الجوي، فقرّر النظام تفريغ الجيش من حركة الضباط الأحرار، وذلك بإرسال أكبر عدد ممكن من ضباطنا إلى بريطانيا في عملية ’إنهاء‘ للحركة. كان من بين شروط إرسال الضباط إلى بريطانيا للتدريب اجتياز امتحان اللغة الإنكليزية؛ فأصدرنا أمرًا لضباط الحركة أن يتعمّدوا الرسوب في الامتحان بأنْ يجيبوا عن الأسئلة بطريقة خاطئة. ومع ذلك تمكن النظام من إرسال بعض ضباطنا حتى ليلة الثورة. وفي ليلة الفاتح كان هؤلاء الضباط يستعدون للسفر في الصباح الباكر إلى بريطانيا، فتظاهرنا بتوديعهم، ولكنهم، بدلًا من أن يذهبوا إلى المطار، ذهبوا لتنفيذ مهماتهم الثورية. قبل أشهر من الإعداد لتفجير الثورة، بدأنا حملة لتهيئة المناخ الثوري في الشارع الليبي، وبدأنا بطباعة المنشورات التي تهاجم النظام وتدعو إلى الثورة عليه، وتوزيعها في الأماكن العامة". ويستمر في عرض تسلسل الأحداث كذلك وصولًا إلى تفجير الثورة.
ويذكر موقفًا له في خطاب له أمام الضباط الأحرار يحثهم فيه على التهيؤ للثورة، في اللحظات الأخيرة السابقة لإعلانها؛ "في نهاية المحاضرة قلت لهم: ’أنتم اليوم تقومون بدور تاريخي ووطني نيابة عن الشعب الليبي كله، لاستعادة تاريخ الجهاد الذي سُرق، واسترداد الشرف الوطني الذي انتُهك، والكرامة والحرية اللتين سُلبتا، أنتم اليوم تتقدّمون الليبيين والليبيات وتشكلون طليعته الثورية. اليوم أنتم تفجّرون الثورة مع بقية إخوانكم من جنود وضباط القوات المسلحة في طول البلاد وعرضها‘. وفي تلك اللحظات، هتف الجنود بصوت واحد: ’جاهزون.. جاهزون.. جاهزون.. ثوار، ثوار، ثوار، سوف ننتصر لعمر المختار‘. ثم وزعنا الذخيرة على الجنود. ونظرًا إلى وجود كميات قليلة فحسب، بعد أن قام النظام بسحب معظم ما كان متوافرًا، فقد كان لكل جندي من أصل عشرة، خمس طلقات، أما التسعة الباقون فقد كانوا بلا ذخيرة. وفي تمام الساعة الثانية صباحًا، أيقظنا جنود الدفاع الجوي والبحرية، وألقيت فيهم الخطاب نفسه، وبدؤوا باستلام أسلحتهم وكان عددهم نحو 2800 جندي".
ثم انطلقت ثورة الفاتح، وهنا يتحدث الكاتب عن كيفية تأسيس التنظيم الشعبي في الشوارع والأحياء، ثم حركة اللجان الثورية. ويذكر رأيه في الثورة عمومًا، ويقول: "أكدت لنا مجريات الأحداث أن النظام الملكي كان منهارًا، وأن ثورة الفاتح جاءت لتعلن سقوطه فحسب، ودليلي على ذلك ... لم تواجه الثورة أي نوع من المقاومة، ولم تطلق القوة المتحركة، الجيش الموازي، ومعها الجيش، رصاصة واحدة، ما عدا بعض أعمال المقاومة المحدودة في طرابلس. ولذا، عُرفت ثورة الفاتح في الأوساط الشعبية الليبية بـ ’الثورة البيضاء‘. رغم إعلان حالة الطوارئ ومنع التجوال، فإن الجماهير رفضت الإذعان للقرار، وخرجت المدن والقرى عن بكرة أبيها إلى الشوارع في كتل بشرية هائلة دعمًا للثورة، وصعدت حشود من الجماهير فوق المدرعات والسيارات، وأخذت تغمر الجنود بالقبلات ومشاعر الحب والتأييد، كما أن الأسر الليبية خرجت لتوزع الطعام بين الجنود".
بعد ذلك يتناول الكاتب، في الفصل الثاني "حينما أصبحت رئيسًا لوزراء ليبيا"، مفاوضات الإجلاء وإذعان الإنكليز والأميركيين بعد مناورات يائسة، ويتحدث كذلك عن طرد "المستوطنين الطليان"، ثم عن "ثورة النفط". ويتناول "العلاقة مع مصر" في الفصل الثالث، ويشير إلى اللقاء الأول مع جمال عبد الناصر، ثمّ يتناول زيارة عبد الناصر إلى ليبيا ومشروع روجيرز، وبعد ذلك يتحدث عن مرحلة السادات وحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، التي يعدّها "كارثية". ويسرد ما جرى في الاشتباك المصري - الليبي على الحدود، ثم تأسيس "جبهة الصمود التصدي"، وصولًا إلى "عودة مصر" لحضور مؤتمرات القمة العربية والمؤتمر الإسلامي.
وبعد الكلام عن "الحرب الأهلية في لبنان"، في الفصل الرابع، يتناول الكتاب في الفصلين الخامس والسادس محطات عربية ودولية كثيرة في حركة الثورة الليبية وتأثيراتها وتفاعلاتها، عربيًا ودوليًا وإقليميًا. لذلك كان للثورة موقف من تحرير الصحراء الغربية، ومن العلاقة مع الجزائر، ومن تجربة اتحاد المغرب العربي، ومن الخليج العربي، وكذلك كان لليبيا علاقات بسلطان عمان قابوس بن سعيد. وتطرّق إلى لغز اختفاء موسى الصدر، والموقف من صدام حسين واحتلال الكويت.
على الصعيد الدولي، يذكر الكاتب زياراته وحواراته مع قادة العالم. فيورد زياراته إلى كل من فرنسا وألمانيا والسويد والصين وكوريا الشمالية وغيرها من الدول، ويتطرق إلى اللقاءات مع قادة الدول من مهاتير محمد إلى فيدل كاسترو إلى روح الله الخميني في إيران وعيدي أمين في أوغندا ومؤتمر عدم الانحياز والعلاقة مع الهند.
وفي الفصلين السابع والثامن، نجد تفصيلًا في القضايا الدولية الكبرى المؤثرة مباشرةً في السياسة الليبية والحضور في المحافل الدولية. ففي السابع، توسّع في قضية "الحرب في تشاد"، وأشار إلى أن مواقف كثير من الدول العربية قبل الأجنبية، عارضت هذا التدخل الليبي في تشاد، واعتبرته محاولة ضم لها. وتحدث أيضًا عن تكلفة هذه الحرب العبثية، وأثرها في الوضع الاقتصادي الليبي، وخاصة بعد هبوط سعر النفط بين عامي 1983 و1984. أما في الثامن، فتناول قضية "لوكربي" والمواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية.
الخلاف مع القذافي والثورة ضده
يذكر الكاتب الأوراق الإصلاحية الثلاث التي تضمنت نقدًا للجان الثورية ولبعض مقولات الكتاب الأخضر وخطة لإعادة تنظيم القوات المسلحة، وبرنامجًا جذريًا للتغيير. وهو ما التف عليه القذافي، بسلوكات التفافية معاكسة، كما يصف الكاتب ويسرد الأحداث التي أدت به إلى أن يستقيل من منصبه في 9 أيار/ مايو 1992.
ثم يذكر حادثة تسليم الملك الحسن الثاني لعمر المحيشي، وما أثارته في نفسه من تصرفات العقيد القذافي. وظل الكاتب يتتبع تسلسل الأحداث وصولًا إلى عام 2010، حينما كان هو في باريس فأرسل إليه القذافي أولاده، ليحاولوا إقناعه بالعودة إلى ليبيا ليستلم الحكم، ويفعل ما يشاء، وذلك برسالة من أبيهم إليه، وقد اتصل القذافي به شخصيًا، لكن بلا جدوى.
لقد اتخذ الكاتب قراره، ووقف إلى جانب الثورة الليبية وانتفاضة الجماهير ضد القذافي في عام 2011، وقد كانت في تلك الفترة، قد بدأت ضربات الناتو على مواقع النظام الليبي. وفي هذا يقول: "حين تفجرت الانتفاضة، اتخذت شخصيًا قرارًا بالوقوف إلى جانب الشعب ودعم الثوار في تاجوراء وسوق الجمعة وفشلوم والظهرة والهضبة الخضراء وجنزور، بالسلاح".