صدر عن المركز العربي للأبحاث كتاب بعنوان أنثولوجيا الترجمةالعربية، لطارق شما ومريم سلامة كار. يقع الكتاب في 680 صفحة.
يشتمل أنثولوجيا الترجمة العربية على النصوص التي تتناول الترجمة بالتحليل والمناقشة في مصادرها كافة في التاريخ العربي. ويمثّل عيّنة شاملة من فكر الترجمة في اللغة العربية، من أقدم عهودها إلى أوائل القرن العشرين، يتبدى من خلالها تأثير هذا الفكر في مختلف النواحي الفكرية والثقافية والسياسية للمجتمعات العربية في هذه الفترة. تناقش المقدمة العامة للكتاب المنطلقات النظرية للبحث ونتائجه وأهم اتجاهات الفكر الترجمي في الفترة التي تشملها الدراسة، إضافة إلى تعليقات مفصلة من المؤلفَين على كل النصوص المختارة تضعها في سياقها التاريخي والفكري وتربطها بنظريات الترجمة المعاصرة. ويتضمن الكتاب أيضًا مسحًا إحصائيًا شاملًا للمادة المجمعة التي اختيرت منها نصوص الأنثولوجيا؛ وهو متن يتجاوز 500 نص من مختلف الأحجام، تتناول الفكر الترجمي في مختلف المصادر في التاريخ العربي. ويمثل العمل مرجعًا مفيدًا للباحثين في دراسات الترجمة والتاريخ العربي الإسلامي واللغة العربية وآدابها، فضلًا عن مجالات أخرى تشمل الفقه الإسلامي واللاهوت المسيحي وتاريخ العلوم.
يهدف كتاب أنثولوجيا الترجمة العربية إلى رصد خطاب الترجمة في التاريخ العربي، بأكبر قدر ممكن من الشمولية. فهو يستند إلى مشروع بحث امتد سنوات عدة، وعمل على رصد النصوص التاريخية العربية التي تتضمن النظر في الترجمة أو التأمل فيها أو التعليق عليها بأي شكل، سواء تعلق ذلك بالترجمة عمومًا منهجًا وممارسةً أم بنصوص بعينها، وفي أي سياق جرى فيه هذا النقاش، بغض النظر عن المجال العلمي أو الفكري الذي يتناوله، أو انتماء الكاتب الإثني أو العرقي، أو حتى موقعه الجغرافي، ثم جمع هذه النصوص، بأحجامها المختلفة، في متن نصي Corpus واحد.
امتد مجال الدراسة من أقدم العصور المعروفة إلى نهاية الحرب العالمية الأولى (1918)، والتي اعتبرناها نهاية المرحلة التاريخية وبداية العصر الحديث في العالم العربي. ويستند هذا القرار إلى ضرورة وضع حدود زمنية للفترة التي يغطيها الكتاب، وهي حدود مصطنعة من دون شك حين تقيَّد بتواريخ محددة، لكن هذا أمر لا مفر منه في دراسة من هذا النوع.
أما عن اختيار هذه التواريخ في حد ذاتها، فهو لا يستند إلى إجماع في الدراسات التاريخية العربية على بداية ما يمكن أن نسميه العصر الحديث، لغياب هذا الإجماع في الأساس، وهذا ما لا نراه بالضرورة عيبًا في هذه الدراسات. فالحداثة مفهوم لا يسهل تعريفه في أيّ علم من العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو مثار خلافات لا يمكن التوفيق بينها، تنبع من التنوعَين الأيديولوجي والمنهجي المحتومَين لدى الباحثين المختلفين. وبناء على هذا، بدا للمؤلفَين أن نهاية الدولة العثمانية وآثارها العميقة في العالم العربي، مع ما رافقها من نهاية الحرب العالمية الأولى وما خلفته من تغيرات سياسية واجتماعية عالميًا، فضلًا عن قربها من بداية القرن العشرين ونهاية عصر النهضة، مثلت كلها عوامل مجتمعة يمكن أن تمثّل علامةً تؤذن ببدء العصر الحديث في العالم العربي؛ وهي رؤية قد لا يتفق معها كل الباحثين ممن قد تكون لهم أولويات متباينة. لكن تحديد تواريخ معيّنة أمر لا مفر منه، ولا بد لأي خيار من الخيارات المتاحة من أن تكون له محدودياته.
أنثولوجيا الترجمة العربية كتاب يقدم أنثولوجيا لمجموعة من النصوص التي اختارها المؤلفان لتمثّل لمحات من هذا الخطاب في مراحله المختلفة، مراعيَين فيها التنوع في الموضوعات والفترات الزمنية، والارتباط بقضايا العصر المدروس وباهتمامات البحث المعاصرة، مع إرفاقها، فضلًا عن البيانات التاريخية والبيبليوغرافية الضرورية، بتعليقات تتحرى طبيعة الفكر الترجمي في كل نص، مع وضعه في سياقه التاريخي وبيان صلته قدر الإمكان بنظريات الترجمة المعاصرة.
قسّم المؤلفان النصوص المختارة إلى مرحلتين، المرحلة التراثية ومرحلة عصر النهضة، رُتبت فيهما النصوص في فصول وفق تسلسلها التاريخي. وبالطبع، تعذر في كثير من الأحيان تحديد سنة كتابة النص، ويتعلق هذا بالنصوص التراثية تحديدًا، وعندها اعتمد المؤلفان على سنة وفاة المؤلف. وفي الفصول التي جمعا فيها نصوصًا عدة، اعتمدا على تاريخ النص الأول، أو تاريخ وفاة مؤلفه.
يتكون كل فصل من مقدمة تشمل سيرة موجزة للمؤلف، أو المؤلفين، ومقدمة عامة عن النص، يليها النص نفسه، ثم تعليق أحد الباحثَين على النص. يرد العنوان الأصلي للنص المقتبس في الصفحة الأولى من الفصل (مع سيرة المؤلف ومقدمة النص)، إلا أن الباحثَين ارتأيا إضافةَ عنوان إلى النصوص المقتبسة يوجز قدر الإمكان الموضوعات التي يتناولها واتجاه التعليق، وترد العناوين المضافة بين قوسين.
وفي بعض الحالات، جمعت النصوص ذات الموضوعات المتقاربة من الفترة التاريخية ذاتها، فضلًا عن نصوص للكاتب نفسه، للاستفادة من ميزات المنهج الموضوعي. وجاء ذلك بحكم الضرورة في بعض الحالات، كما في الطبعتين الأولى والثانية من الترجمة اليسوعية للكتاب المقدس. وفي هذه الحالة، وضع المؤلفان عنوانًا عامًا للمجموعة، يليه تصدير لكل نص بعنوانه الأصلي المستقل.
المرحلة التراثية
تزايدت أهمية الترجمة بعد انتشار الإسلام وخروجه من نطاق شبه الجزيرة العربية؛ إذ كان للمترجمين دور أساس في الفتوحات الإسلامية (يُنظر: الطبري، الواقدي، ابن عساكر)، وذلك للتواصل مع شعوب البلدان المفتوحة والجيوش المدافعة عنها أيضًا، وكذلك بعد استقرار الدولة الجديدة وتحولها إلى إمبراطورية ذات امتداد عالمي، تضم في الداخل اللغات والأعراق المختلفة، وترتبط في الخارج بعلاقات دولية سياسية أيضًا. وهذا ما خلق حاجات جديدة للترجمة، المكتوبة والشفوية، في إطار التواصل ضمن الدولة الجديدة، سواء على مستوى الإدارة والحكم، أو في مجالات الأدب والفكر، أو على مستوى التواصل اليومي، وخصوصًا مع استقرار الدولة ومؤسساتها بدءًا بالعهد الأموي؛ ما أحدث حاجات إدارية جديدة من جهة، وموارد مالية ومؤسساتية لرعاية الترجمة رسميًا من جهة أخرى.
لم تكن الدولة الإسلامية الجديدة مقطوعة الصلة بما قبلها. فقد كان للكثير من شعوبها حضارات عريقة سالفة كثيرًا ما استمر انتماؤها إلى تراثها الحضاري السابق ليؤدي دورًا مؤثرًا (بأشكال ودرجات مختلفة) ضمن الدول الجديدة. وهكذا، لم يتردد كثيرون من مفكري هذه الثقافات، سواء من اعتنق منهم الإسلام أم من بقي على ديانته القديمة، في أن ينهلوا من تراثهم السابق بالترجمة المباشرة منه وفي الاقتباس منه والإشارة إليه، وفي أن يستمدوا منه موارد للبحث العلمي والفكري والتاريخي ومراجع في العلوم النظرية والعملية. من ناحية أخرى، اقترنت نشأة العلوم والمباحث الفكرية الجديدة وازدهارها، من الفلسفة والطب إلى الفلك والكيمياء وغيرها، بحركة ترجمة واسعة النطاق لنقل علوم الأمم السابقة للإسلام ومعارفها والبناء عليها للانتقال إلى مرحلة جديدة من مسيرة المعرفة الإنسانية.
عصر النهضة
مع دخول عصر النهضة في أوائل القرن التاسع عشر (وهي مرحلة انتقالية مفصلية أخرى في التاريخ العربي)، وصلت الترجمة العربية إلى ذروة أخرى من النشاط والتأثير؛ حيث كانت الترجمة موردًا فكريًا أساسيًا في ذلك العصر، بمساهمتها الفاعلة في حياته الفكرية والأدبية والاجتماعية. وقد مثلت أحد أهم عوامل التحديث والعصرنة، بإدخالها معارف وعلومًا جديدة، وكذلك أشكالًا وأساليب وتقنيات أدبية أثْرت الأدب العربي ونقلته إلى مرحلة جديدة.
فالنصوص المختارة في هذا الكتاب تقدم لنا مصادر عديدة وغنية للنظر في قضايا الترجمة والتعمق فيها، وقليل منها محسوم وكثير لا يزال موضوع نقاش. غير أننا نرى من المهم هنا التشديد على نقطة سوف نفصّل فيها لاحقًا، وهي الأهمية المتواصلة للترجمة في الفكر العربي بمختلف مراحله. لا خلاف في أن العصر الأموي والعصر العباسي المتقدم وعصر النهضة تمثل محطتين مهمتين (وربما الأهم) في تاريخ الترجمة في العربية، إلا أن الفكر الترجمي العربي (وإن لم تكن الترجمة ذاتها)، كما تدل على ذلك المادة التي جمعناها في هذه الدراسة، استمر بدرجات مختلفة من النشاط والتأثير على امتداد هذا التاريخ، وقد كان هذا الفكر وثيق الارتباط بالحياة الفكرية والسياسية للمجتمعات العربية والإسلامية التي ظهر فيها، على نحوٍ يستحق المزيد من النظر والتأمل والدراسة.