إلى وقتٍ قريب، تبنّى عدد مهمّ من الباحثين والمفسرين في الغرب الاقتناع القائل: إن المخيال الفكري الذي يقترن بـ "التنوير" و"الحداثة" هو في جوهره حراك علماني إلحادي يحمل في طياته عداوةً للدين، فكان مبتغاه الأساسي إخراج الإيمان الديني من الفضاء العام، بل سوّقوا هذا الاقتناع. وخلافًا لهذا الاعتقاد التقليدي، تعْرض دراستنا نماذج لأصوات لاهوتية وفلسفية أنكلوسكسونية معاصرة، أطلقها باحثون يدْعون فيها إلى إعادة قراءة مشروع "التنوير" و"الحداثة"، والتأكيد على أنه مشروع يعبّر عن حراك معرفي متجذر بعمق في أرضية مقاربات ومفاهيم دينية ولاهوتية. وتقدم هذه الدراسة في القسم الأول منها ثلاثة أصوات من حقل الفكر اللاهوتي المعاصر في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، تـناقش قضية مفادها أن علمانية "التنوير" و"الحداثة" لم تكن في حقيقة الأمر إلحادية أو ضد الدين بطبيعتها، وأن أتباعها ومنظّريها لم يتنكروا لانتماءاتهم واهتماماتهم المسيحية الدينية، أو حتى الكنسية. أما القسم الثاني فيتوقف عند قراءة مماثلة موجودة في سياق التفكير الفلسفي الأنكلوسكسوني، كما قدّمها تشارلز تايلر الذي طور أطروحة تدور حول الجذور والافتراضات الدينية الطبيعية والأصلية للعلمانية، مناقشًا مسألة مفادها أن الدعوة الحداثوية للتخلص من السحر والتطير، مستوحاة من أفكار ومفاهيم مشتقة في أصلها من المخيال اللاهوتي للإصلاح البروتستانتي، والحركة الإنسية في عصر النهضة. وتختتم الدراسة ببعض الملاحظات والأفكار المتعلقة بالقراءة الغربية الكلاسيكية لحركتَي التنوير والحداثة، من حيث كونهما حركتين تتبنيان رؤية ضد دينية وإلحادية، والنظر في الكيفية التي يمكن القراءة الغربية الجديدة الحالية لنفس الموضوع، أن تقدم دعوة متجددة لإعادة النظر في العلمانية وقيمتها من زوايا ومقاربات مختلفة.