صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه، كتاب الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال (1975-1956)، من تأليف الباحث الأكاديمي إبراهيم أيت إزي، وتقديم لطفي بوشنتوف. ويشتمل على ثلاثة فصول تتمحور حول الحراك الاجتماعي والعسكري في المغرب منذ عام 1912، وأطرافه الفاعلة وصراعها مع السلطة وأسباب فشلها في مرحلة ما بعد الاستقلال. ويقع الكتاب في 392 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
يتتبّع الكتاب فكرة الحراك الاجتماعي في تاريخ المغرب الراهن، للدلالة على أشكال الاحتجاج الإنساني الرامية إلى التغيير بين عامَي 1956 (تاريخ الاستقلال) و1975، منعطف المسيرة الخضراء وتبنّي الخيار الديمقراطي، الذي تميّز بالتوتّر والصدام في سياق بناء الدولة الحديثة المستقلّة وهيكلتها. ويتتبّع كذلك ظاهرة الاحتجاج في المغرب منذ القرن التاسع عشر، مرورًا بمرحلة الحماية، للمقارنة التاريخية المعتدلة، من دون اتّهام أو تبرئة أو تعسّف في الأحكام، مع تحرّي الحدث بوثوقية، مستعينًا بعلوم السياسة والاجتماع السياسي والأنثروبولوجيا السياسية لسبر أحوال مغرب ما بعد الاستعمار.
دراسات حول حراك عام 2011 وأهدافه
بعد حراك عام 2011 تكثّفت الدراسات حول الموضوع، تارةً من زاوية تحليل العلاقة بين الاحتجاجات والمجالات الحضرية، وأخرى للبحث في إشكالية الدولة والمجتمع وعلاقة السياسي بالميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وثالثة لبحث ارتباطات الدول التابعة بالمؤسّسات المالية العالمية، أو أخيرًا لرصد التحوّلات التي عرفها المجتمع.
ونَحَتْ دراسات إلى التعرّف إلى أشكال الاحتجاج الاجتماعي في المغرب، وفحص سيرورة التغيّر الاجتماعي وطبيعة علاقة الدولة بالمواطن، وإحصاء الأفعال الاحتجاجية الجماعية بين عامَي 2011 و2013، وزاوجت أخرى بين العمل الصحافي والبحث السوسيولوجي حول أحداث آذار/ مارس 1965 وحزيران/ يونيو 1981 في الدار البيضاء، كما انبرت دراسات للمضمونَين السياسي والقانوني للاحتجاج بالمغرب، وفهم حيثيات انخراط شباب حركة 20 فبراير في الحراك المغربي عام 2011.
ويُسجَّل في هذا البحث غياب المقاربة التاريخية والتراكمات المعرفية التي تسمح بالإحاطة الشمولية للموضوع، واستعراض أسباب الظاهرة ونتائجها، من دون الوقوف عند الفاعلين فيها، وبقاء عدد ممّا كتب فيه محكومًا بخلفيات أيديولوجية متناقضة.
إشكالية البحث
طرح الكتاب أسئلة عدة، منها: ما طبيعة المتغيرّات التي مَسَّت حراك المغاربة؟ وما المطالب والغايات؟ هل كان نظام الحكم هو المخاطَب فيها دومًا؟ هل تأطّر الحراك فكريًّا وتقنيًّا أم ظلّ عفويًّا كشأنه قبل الاستعمار؟ ما ردود فعل النظام؟ أظلّ الحراك يستقي من ثقافة المخزن، أم إن قوس الاستعمار أضفى عليه متغيّرات وأذابَ عادات؟
لا يدّعي الكتاب تقديم إجابات حاسمة عن كلّ هذه التساؤلات، بل هو مساهمة لفهم موضوع شائك وذي أهمية، وإن كانت بعض استنتاجاته توحي بعكس ذلك، وهو يرتكز على ثلاث "دراسات حالة" لتتبّع الحراك الاجتماعي في المغرب بعد الاستقلال، هي: الريف 1958-1959، الدار البيضاء 23 آذار/ مارس 1965، والعمليات المسلحة التي وقعت زمن السبعينيات (محاولتا الانقلاب عامَي 1971 و1972، وهجومات 3 آذار/ مارس 1973)، للكشف عن العلاقات السببية بين أجزاء الظاهرة، وبناء تصوّر علمي عن ظاهرة الحراك الاجتماعي الراهن بالمغرب.
القاعدة الغنية لمصادر البحث
وتتوزع مصادر مادة الكتاب بين وثائق الأرشيف الأجنبي وتقاريره، وأرشيف نانت Nantes الدبلوماسي، والأرشيف الأميركي؛ ودراسات أكاديمية أجنبية لديفيد هارت وإرنست غيلنر ووليام زارتمان وأشفورد دوغلاس وكلود بالازولي وريمي لوفو وجون واتربوري وإينياس دال؛ أو لباحثين مغاربة هم عبد الله العروي، ومحمد العيادي والمصطفى بوعزيز ومحمد الطوزي وعبد الله حمودي وعبد الرحمن رشيق؛ ودراسات قيّمة تضمّنتها مجلة حوليات شمال أفريقيا Annuaire de l'Afriquedu Nord؛ وخطابات الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني؛ وأرشيفات "هيئة الإنصاف والمصالحة"؛ ومذكرات فاعلين في الزمن الراهن، أمثال المهدي بن بركة، وعبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمن اليوسفي، ومحمد بنسعيد أيت إيدر، ومحمد اليازغي، ومحمد الفقيه البصري، وعبد الهادي بوطالب، والغالي العراقي، وعبد الكريم الخطيب، والمحجوبي أحرضان؛ ومذكرات في أدب السجون عما عاشه أصحابها من تجارب الاعتقال القاسية، كأحمد المرزوقي ومحمد الرايس؛ والمصادر الشفَوية، التلفزية أو عبر التواصل المباشر أو الأفلام الوثائقية، مع من لم تخطفهم يد المنون بعد ويروون الأحداث الأكثر دلالة في مسيراتهم؛ والصحافة الوطنية والأجنبية، بصفتها المسوّدة الأولى للتاريخ والأقوى في نقل الوقائع.
وعلى الرغم مما يبدو عليه رصيد القاعدة المرجعية في هذا الكتاب، فإن مؤلفه لا يدّعي الإحاطة بكل حيثياتها، وعلّق مقاربة بعض الأفكار بما قد تكشف عنه الأيام والبحوث التالية.
وقد انتهى الكتاب إلى الخلاصات التالية:
- اقتران حركية المجتمع المغربي بعامِل القَهْر والحرمان نفسه الذي حرّك مجتمع القرن التاسع عشر وما قبله: الجباية والتسخير اللذان فجّرا الريف بين عامَي 1958 و1959 احتجاجًا على الإهمال الاقتصادي واستفحال البطالة والفقر والأبوية المفروضة من الجنوب، كما فجّر احتجاجات بروليتاريا الدار البيضاء في 23 آذار/ مارس 1965 أمام تراجع مستوى المعيشة وأزمة التشغيل، وتوسُّل النظام العنف لكبح الصوت المعارض، كما أطلقا العمل المسلح لمحاولة قلب النظام بدايةَ السبعينيات، نتيجةً للأوتوقراطية واحتكار أقلية سياسية للامتيازات.
- أن التحرّك الشعبي كانت نتيجته الفشلَ، لافتقاد الجماعات الحراكية أيّ بوصلة أو توجيه، وغياب المُعين الفكري، والتباس الأهداف والغايات، والعجز عن التحوّل إلى حركات اجتماعية منظمة وقادرة على المساهمة في التغيير العام؛ ما جعل واقع ما قبل الاستعمار يولد نفسَه مع حراك الريف القبَلي داخل إطار السِّيبة، وتجميد عناصر الحركة الشعبية دورها مع نداء الملك الأول في تشرين الثاني/ نوفمبر 1958، على الرغم من تواصل احتجاج بني ورياغل، وتراجُع دور القبيلة في الدار البيضاء وبروز فئات اجتماعية جديدة فيها، كالتلاميذ، انتهت بها الأحداث نهاية تخريبية مؤسفة، بسبب مشاركة فئات من دون خلفية أيديولوجية ومتحدّرة من بادية ممتدة لتشكل "فسيفساء" قبَلية داخل المدن من دون أي اندماج ثقافي أو مهني. وكانت النتيجة عمليات مسلّحة في محاولتَي الانقلاب وهجومات الأطلس، عشوائية التحضير والتنفيذ إلى درجة أن قوات هجوم الصخيرات عام 1971 كانت من طلبة يجهلون ما هم فيه ولماذا، بل منهم من لم يكن يعرف حتّى صورة الملك. وفي العملية الثانية عام 1972، تكرر الاضطراب والفوضى نفساهما، وفي عمليات "البلانكي" (اليسار) في آذار/ مارس 1973 أتى التهافُت والتسرّع على معظم عناصرها.
- أن التحوّل من البادية إلى المدينة، ومن القبيلة إلى الحزب، ومن الحِنطة إلى النقابة، ومن المخزن إلى المؤسسة الملكية، لم يمنع تعاملًا مع الأحداث ينتمي إلى ما قبل عام 1912. فعلى الرغم من توافر ثقافة سياسية حديثة تأثرًا بالمنظومات السياسية الكونية، وثقافة ديمقراطية بحكم العيش في أوروبا، بقيت الممارسة السياسية محكومة بشروط المحافظة والتقليد وثقافتهما.
ويعود ثبات النسق السياسي المغربي – وفق الكتاب – إلى التكاسل في التعديل الجذري للنظام القديم إثر الاحتكاك بالحضارة الغربية الحديثة، فاستمر النظام الأبويّ يقود المجتمع، والملك عاهلًا مُطلقًا تحت شعار "الله والوطن والملك"، إلى جانب جهاز بيروقراطي مخالف لنظيرَيه في تونس والجزائر بعد الاستقلال، يفرض عدم قدرة المواطنين على المشاركة في أيٍّ من الشؤون العامة المضمونة دستوريًّا إذا لم تسمح به الدولة الأبوية؛ ما أجبر المواطن على العودة إلى بناه الأوّلية: العائلة، والإثنية، والقبيلة، والطائفة.
- أن عطَب المجال السياسي المغربي وما يترتب عليه من أزمات اجتماعية هما وليدا تعثّر الانتقال من زمن ما قبل الحماية إلى الزمن الرّاهن، والسبب في استمرار احتجاجات الحقل السياسي وأزماته حول فصل السلطات، وكيفية توزيعها بين الملك والحكومة والمؤسسات الدستورية والمجالس التشريعية، وحول مصداقية العملية الديمقراطية في حد ذاتها، وفي المحصلة لم يعد ممكنًا تصوّر فكرة العقد الاجتماعي مع عدم إمكان المعارضة الشرعية فكان التمرّد بديلًا توسَّل في عمله وسائل من صلب النظام القائم، ولم يستطع كلُّ مَن ضادَّه مؤقتًا الانفلاتَ من قبضته، كما كان قبل الاستعمار. فالقادة والزعماء لم يعلنوا حكمهم الجديد لاستبدال بنية بأخرى، بل لمجرد استبدال أنفسهم بزعامة أخرى وإعادة إنتاج خاصيات النموذج السابق نفسها، فلا غرابة والحالة هذه في بُدُوّ الحالات المدروسة غامضةً على الفهم ظاهريًّا، عندما يفجّر بعض المنتفضين غضبهم ضدّ أجهزة الدولة ويطالِب آخرون إياها بالتدخّل لحلّ مشاكلهم.
استُهلّ الفصل الأول من الكتاب بتأطير المفاهيم والمصطلحات وتدقيقها، باعتبارها نقطة انطلاق لتلافي مزالق مرونتها الدلالية، فإلى جانب المفهوم المحوري للحراك الاجتماعي، توقف الفصل عند مفاهيم ومصطلحات قريبة منه يثير تداولها اضطرابًا على مستوى التحليل، مثل: الاحتجاج، الحَرْكة، التمرد، الثورة، السيبة، العصيان، العِيطة، الفتنة، الانتفاضة، الهِيعَة، المظاهرة. ثم تطرق الفصل إلى الحراك في مغرب ما قبل الاستعمار، كي يتسنّى فهم هذا الحراك، مستشهدًا بعبارة للمؤرخ العروي تفيد أنه لكي نفهم زمن الحسن الثاني لا بد أن ندرس الحسن الأول.
وانكب الفصل الثاني على شرح أرضية الحركات الاجتماعية وتغيرها حتى نهايتها أو تغييرها لمسارها بعد عام 1975، مركّزًا على السياقات السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عملية التتبّع العميق لتطوراتها وفهم مآلاتها. وناقش الفصل ظروف سير الأطراف الفاعلة نحو الاستقلال وانفراط عقدها ضمن الحركة الوطنية، وتناقضاتها وتضارب طموحاتها ورؤاها، وصراعها الحادّ حول الشرعية والسلطة، في غمرة الدينامية المجتمعية التي نجمت عن إسقاط معاهدة الحماية، وكان على رأسها حزب الاستقلال وجيش التحرير، علاوةً على المركزية النقابية والاتحاد المغربي للشغل وحزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي.
وتوقف الفصل عند أعوام الاستقلال الأولى (1955-1960)، التي انفرط فيها عقد توافق قوى الحراك وظهرت تناقضاتها الداخلية في شكل صراع مفتوح لاحتكار السلطة تسبب بأزمات مالية.
ويتحدث الفصل عن أخذ القصر المبادرة بين عامَي 1960 و1965، وتحويله صلاحيات الحكم كاملة لولي العهد الحسن، الذي قاد البلاد بقوة بعد وفاة محمد الخامس وطوَّق المعارضة بعد تمرير أول دستور عام 1962 حسم له الهيمنة المطلقة على الحكم والتحكّم في اللعبة الانتخابية، مستعينًا بالنُخب الوفية للملَكية.
ويتتبّع الفصل أخيرًا الفترة 1965-1975، وما جرى فيها من الاستثناء والمصالحة اللذين أديا إلى مرحلة الأوتوقراطية وسلطة الملك الأحادية وتجميد العمل الحزبي؛ ما عمّق مصاعب البلاد، وخصوصًا مع اضطراب العلاقات السياسية مع فرنسا في إثر تداعيات قضية المهدي بنبركة، والكساد المالي العالمي عقب أزمة عام 1929؛ ما تسبب في توترات أدت إلى احتجاجات تنشُد التغيير، قادها الشباب الماركسي اللينيني. غير أن الصدمة كانت مع ظهور خيار العمل المسلح وسيلةً لتحقيق مطلبَي الإصلاح والتغيير.
تحليل حالات شاهدة
يمّم الفصل الثالث صوب الحالات الشاهدة، فاختار ثلاثة نماذج تعكس في رأي المؤلف حراكًا لرفع الحيف وتحقيق التغيير: حالة الريف عامَي 1958 و1959 وتمرد قبيلة بعيْد الاستقلال بأعوام قليلة، فقد ظلت تعتمل في ذاكرة الريف انتصارات معركة أنوال عام 1921، ورمزية محمد بن عبد الكريم الخطابي.
أما الحالة الثانية، فحدث 23 آذار/ مارس 1965، الذي أسس له جيل الاستقلال الحالم بتحقيق أماني المغرب المستقل عن الحماية الأجنبية، فكان طابعها المفاجأة والامتداد السريع بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، من إضراب التلاميذ إلى انتفاضة المدن.
ثم تطرق الفصل إلى العمليات المسلحة التي عاشها المغرب زمن السبعينيات، ومنها تحرّك العسكر في انقلابَي عامَي 1971 و1972، وتحرك اليسار الثوري عام 1973. على الرغم من التحفظ على تسمية محاولتَي 1971 و 1972 انقلابًا، فإن آليات عملهما صعقت الملك، فوجّه نحو المحاولة الأولى حملة دامية، في حين تمثلت الحملة الثانية بعصيان عسكري، اعترض خلاله الجنرال محمد أوفقير في 16 آب/ أغسطس 1972 طائرة البوينغ 727 التي أقلت الملك خلال عودته من فرنسا إلى المغرب.
وكان وراء العملية المسلحة الثالثة، يوم 3 آذار/ مارس 1973، عناصر من اليسار "البلانكي" قادها محمد الفقيه البصري وتدربت في سورية ثم في ليبيا.
حاول الكتاب تحليل خصوصية الحراك الاجتماعي في المغرب زمن الاستقلال، قصد بناء تصوّر جامع عن خلفية تاريخية، معتمدًا في هذه المقاربة على تتبّع العوامل المحركة لحراك المغاربة، ثم آليات عملها، وصولًا إلى المآل وردّات فعل الفاعل المخاطَب الأساسي، ألا وهو المخزن.