صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب أصول التشريع الإسلامي التكميلية بين التقديس والدنيوة، من تأليف الباحث حمادي ذويب، وهو كتاب تركّز فصوله الأربعة على مناقشة مفاهيم أصولية إسلامية ثلاثة هي "المصلحة" و"العرف" و"الاستحسان" وآلية أصولية هي "تخصيص العموم" بين الديني والدنيوي، ويناقش قدسية نظرة المسلمين "التقليديين" – كما سماهم - إلى المفاهيم الأصولية عمومًا على الرغم من كونها اجتهادًا بشريًّا دنيويًّا، مستعرضًا إشكالية العلمنة، أو بمعنى أصح "العلاقة بين الديني والدنيوي" وبداية تغلغلها في مجتمعات المسلمين لكسر التابوه حول قدسية بعض الآراء الأصولية. يقع الكتاب في 376 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
قدسية أم دنيوية؟
يتواصل ضمن الخطاب التشريعي العام النقاش حول خطاب أصول الفقه الإسلامي، وهي أصول لا تزال تفرض هيمنتها على ضمائر أغلب المسلمين، وتُستحضَر في حياتهم، وتُوظَّف في المجالات كافة، أخطرها التوظيف الذي يصل حدّ هدر الدماء، وما ذلك إلا نتيجة مسار تاريخي طويل من إضفاء القداسة على هذه الأصول لدى العامّة والدارسين التقليديين، حتى باتت قداستها في نظرهم كالأمر المنزّل الذي لا تجوز مناقشته أو التشكيك في المقولات والاجتهادات التي أفضت إليها، مع أن ما دُوِّن من قياس وإجماع ومصادر يسميها الأصوليون أنفسهم "تبعيةً" - كالاستحسان والمصلحة والعرف وغيرها – هي اجتهادية، وأدوات لإنشاء الحكم، بفهم القرآن الكريم والسنة النبوية أو من دونه، وليس لها قداسة القرآن والسنة. لكنّ الدارسين التقليديين لم يفهموا هذا الفارق فذهبوا إلى "أنّ المجتهدين من الأمة معصومون من الخطأ إذا اتفقت كلمتهم على حكم مستفاد من كتاب أو سنّة أو قياس".
يكمن لبّ الخلاف والإشكالية في سؤالين يحددان طبيعة التشريع وأصوله: مقدسة هي أم دنيوية تاريخية؟ الخطاب التشريعي مؤسس على المقدّس أم متأصِّل في التربة البشرية الدنيوية؟
هذه الإشكالية هي جوهر مسألة طُرحت في الفكر العربي الحديث هي العلمانية والعلمنة، وذلك في المناظرة الشهيرة على صفحات مجلتَي الجامعة والمنار بين فرح أنطون ومحمد عبده عام 1902، التي أسفرت عن تبلور موقفين نظريين أساسيين من إشكالية العلمنة. لا يستخدم المتناظران مصطلح العلمنة نفسه بل يناقشان مضمونه، المتمثّل في حلّ إشكالية "العلاقة بين الديني والدنيوي". تحققت ذروة الخوض في هذه الإشكالية على المستوى السياسي في إلغاء الخلافة العثمانية وتأسيس دولة تركية علمانية عام 1924، أما على المستوى الفكري فظلّت الدراسات عن العلمنة والدين قليلةً، وكان هذا دافعًا لكاتب أصول التشريع الإسلامي التكميلية لخوض مشروع كان حاضرًا لديه لبحث صلة أصول الفقه بالواقع التاريخي خارج دائرة النصوص القطعية، وبخاصة بعد أن استوقفه – كما يذكر في مقدمة الكتاب – ما ذكره عزمي بشارة في كتابه الدين والعلمانية في سياق تاريخي من النية على دراسة "الدين والعلمانية في السياقات العربية والإسلامية" في الجزأين الثالث والرابع من كتابه (في "تقديم" المجلد الأول من الجزء الثاني، ص 10)، إضافة إلى ما ذُكر عن نجم الدين الطوفي (في المجلد نفسه، ص 47)، كما كان دافعًا للكاتب لدراسة إشكالية دنيوة التشريع الإسلامي وقداسته اعتمادًا على مدونات أصولية سنية وغير سنية، بعد أن توصل إلى أنّ الخطاب الأصولي محكوم بعوامل تاريخية بشرية ودنيوية حكمت نشأته وتطوره وتفاعله مع مجتمعه تأثرًا وتأثيرًا، وخصص لبحثه دراسة ثلاثة أصول اجتهادية تبعية مختلف فيها ارتفعت لدى العامة ولدى كثير من الباحثين التقليديين إلى مصادر نصية هي: "المصلحة" و"العرف" و"الاستحسان"، ودراسة آلية أصولية واحدة هي "تخصيص العموم".
مفهوم "الدنيوة"
ترجع جذور مفهوم الدنيوة Verweltlichung إلى مرحلة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا، الذي ساهم - بحسب بشارة - في أمرين: دنيوة الدين المعيش من المؤمن، وتمايز عناصر الدين والدنيا والمقدّس والمدنّس، فيما يعزو مارسيل غوشيه العلمانية إلى البلدان ذات التقليد الكاثوليكي، والدنيوة إلى أوروبا البروتستانتية.
ويبدو أنّ جذور مصطلح "الدنيوة" تعود إلى فريدريش هيغل، الذي لم يستخدم ولا تلامذته - وفقًا لبشارة أيضًا - مصطلح العلمنة، لتعلّقه بمصادرة أملاك الكنيسة، وبناءً عليه فإنّ الدلالة الأهمّ في مصطلح "الدنيوة" تنهض على صلته بالدنيا، وتكون المكانة المركزية فيه لقضايا الناس لا لقضايا الدين، مثل الخطابَين الفقهي والأصولي. ولئن عدَّ أوليفييه روا "الدنيوة" ظاهرة اجتماعية لا تتطلب استخدامًا سياسيًّا، عندما لا يحتل "الديني" المركز في حياة البشر "المؤمنين"، اعتبر غيره "الدنيوة" إضفاءً للطابع البشري على الفقه وأصوله، ووصْلًا لهما بغايات البشر الدنيوية ورهاناتهم الأيديولوجية، وبهذا تكون "دنيوة التشريع" علمنةً للمقدّس، وانتقالًا للقداسة من الماورائي المتجاوز إلى الدنيوي.
يتناول الفصل الأول "المصلحة بين القداسة والدنيوة" التقديس من حيث هو محاولة الأصوليين وصْلَ التشريع وأصوله بالأصلَين التأسيسيَّين: القرآن والسنة، يليهما الإجماع والقياس، وبناءً عليه تناولَ الفصل مفهوم "المصلحة" في اللغة بين الدنيوي والديني، ثم مفهوم المصلحة المرسلة والانزياح عن المقدس عند الأصوليين، وسعى لاستخراج الركائز التي تنهض عليها دنيوة هذا المفهوم، كركيزة استناده إلى العقل واقتصاره على مجال المعاملات دون العبادات. وذكر الفصل أصوليين تصوروا المصلحة المرسلة منفصلةً عن الأبعاد الدينية ومتأصلةً في التربة البشرية، وختم بتلقي الدراسات الغربية موقف أبي حامد الغزالي من المصلحة بعد الإشارة إلى احتفاء دارسين عرب به ونقد آخرين إياه. ثم سلّط الفصل الضوء على مفهوم المصلحة عند الشاطبي وتأرجح المفهوم لديه بين مفهوم أول دنيوي وبشري يمثل الجانب المعنوي، ومفهوم ثانٍ يرتبط بالبعد الديني. وانتقل الفصل إلى الطوفي ومفهومه المعلمن للمصلحة وتركيزه على انفصال دلالتها الدنيوية عن الدينية على مستوى الحد النظري والمثال العملي التوضيحي، وقصره مفهومها على المعاملات دون العبادات. ومن الركائز أيضًا اعتماد الأصوليين على حجة إجماع الصحابة لشرعنة المصلحة، ونهوض الاستدلال العقلي على مشروعيتها على حقيقة محدودية النصوص التي تتضمن أحكامًا، ولذلك لُجئ إلى الحجة العقلية بحثًا عن أجوبة. كما عرّج النص على مسألة العلاقة بين النص والمصلحة، متوقفًا عند إشكاليّة التعارض بين هذين الدليلين، وقسّم حلول هذه الإشكاليّة لدى الأصوليّين إلى ثلاثة: تخصيص النص بالمصلحة، وتقديم المصلحة على النصّ، وإلغاء المصلحة.
درس الفصل الثاني "العرف بين القداسة والدنيوة"، المفهوم اللغوي للعرف، وصلة المادة اللغوية (ع ر ف) بلفظ "العرف" تأثّرًا وتأثيرًا، ونشوء لفظ "العرف" منفصلًا عن المجال الديني بدايةً ثم تأثّره بعدها بالجانب الديني، وهو طابع مزدوج للفظ "العرف" ركّز الفصل على تبيين كيفية تلقّيه من مفسّري القرآن والفقهاء والمتكلّمين وعلماء أصول الفقه. وتناول الفصل بداية بروز المفهوم الديني للعرف في القرن الثاني الهجري للتوصل إلى تفسيره في القرآن، ثمّ تطوُّره داخل علم الكلام السنّي، وكذلك مفهومَه البشري، الأخلاقي والعقلي، والجانب الثاني العقلي ركّز عليه الكتاب لكونه تجلِّيًا لدنيوة مفهوم العرف وانفصاله عن الديني، إذ تحوّل أصلًا للتشريع في المذاهب الإسلامية ترسّخت منزلته في الفقه والأصول، ولدى إمامَي المذهبَين الحنفي والمالكي، وأكثر ما برز في رسالة ابن عابدين الحنفي نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، التي دشّنت انطلاقة التنظير المتأني والمتوسّع لاستعمال العرف. وتطرّق الفصل إلى تأصيل العرف بوساطة الإجماع ترسيخَ طابع الإجماع الدنيوي على الرغم من إضفاء القداسة عليه، كما ركّز الفصل كذلك على أنّ اعتماد بعض الأصوليّين على أدلّة عقلية لشرعنة العرف يُعدّ تكريسًا لدنيوته وبشريّته. وأفرد الفصل مبحثًا لدراسة التعارض بين العرف والشرع، متناولًا بالبحث نوعين منه لدى جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.
الفصل الثالث "الاستحسان بين الدنيوة والقداسة" عرَّف الاستحسان لغويًّا في المعاجم العربية القديمة ومصادر أصول الفقه، كما ركّز على مساهمة المفهوم العقلي للاستحسان ومواقف الأصوليّين منه. وتناول تعريفًا للاستحسان يفيد بأنّه دليل ينقدح في نفس المجتهد ولا يقدر على إظهاره. وفي ما خصَّ حجيّة الاستحسان، فقد توسّع الفصل في إثبات مشروعية الاستحسان في المذاهب السنية وغير السنية، واعتمد في هذا السياق منهجًا تاريخيًّا أثبت أن القرن الخامس الهجري كان الأغنى بشهاداتٍ تكرّس مشروعية الاستحسان في المذهب الحنفي، ثم عرّج على إثبات الاستحسان أصلًا لدى المالكية، ابتداءً بمالك بن أنس، وكذلك في المذهب الحنبلي، الذي أثبت إمامه الأول شرعية الاستحسان، وأيّده علماؤه. أما ما عُرف عن الإمام الشافعي وعلماء مذهبة من رفض للاستحسان مصدرًا للتشريع، فإنّ بعضهم راجع موقفه منذ القرن الخامس الهجري، وقد أشار الفصل إلى هذا التغير. أما في المذاهب غير السنية، فقد توقّف الفصل لإثبات الاستحسان فيها، لا سيما المعتزلة والزيدية والإباضية. وجرت الإشارة بعد ذلك إلى الصلة بين الاستحسان والمصلحة في ضوء تعريفات للاستحسان تؤكّد الانزياح من دليل "القياس" الشرعي إلى دليل "المصلحة" الدنيوي. ويقارب الفصل مسألة تعارض الشرع والعقل من خلال أنموذجَي القياس والاستحسان، وما ورد في المدوّنة الأصولية من أنّ الاستحسان دليل عقلي يعارض دليلًا شرعيًّا هو القياس. وقدَّم الفصل شاهدًا عمليًّا على الانزياح عن القياس إلى الاستحسان، بتطبيق الاستحسان في الحدود الشرعية وتحليل نماذج من الحدود وقع فيها الانزياح من الديني إلى الدنيوي.
الفصل الرابع "تخصيص العموم والانزياح عن الشرع" يختبر مدى صحة فكرة "اللجوء إلى تخصيص عموم النص الديني عن طريق مخصّصات من خارجه"؛ فخبر الآحاد والإجماع والعقل والمصلحة والعرف مثلًا هي من تجلّيات دنيوة النصّ، والنصّ الديني حين تتغيّر دلالته من خلال آلية التخصيص ويغيّر حكمه، يغدو تفسيره خاضعًا لمقتضيات بشرية اجتماعية فرضتها عليه سياقات تاريخية، فيزيح الفاعلون الاجتماعيون بذلك قداسته لكي يكون متّسقًا مع رغباتهم. وانطلاقًا من مفهوم تخصيص العموم، وهو خروج عن الدلالة الأصلية للنصّ يبلغ درجة اعتباره عند بعض المعتزلة نافيًا للأحكام الشرعية، سعى السنيون لتلطيف دلالة هذا الخروج وتعويضها بدلالة البيان، ومن أهمّ مسائل التخصيص "تخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد" ذات الدلالة الظنية، وعليه فهي تمثّل انزياحًا عن المقدّس بوساطة البشري، ومن ثمّ شكلًا من أشكال العلمنة. إذًا، تخصيص العموم بأخبار الآحاد هو أحد تجليات الانزياح عن المقدّس ويجري بوساطة البشري المتّسم بالظنّ والنسبية، لهذا فإن دور الإجماع في تسويغ تخصيص العموم بأخبار الآحاد هو لإقرار أنّ شرعنة الانزياح عن عموم النص القرآني اعتمادًا على حجيّة هذا الإجماع ينبغي تنسيبها في ضوء اختلاف الصحابة والأصوليّين في نشأتها. وقد تبيّن أنّ انزياح الفكر الأصولي عن النص الديني من خلال تخصيصه بأخبار الآحاد حتّمته محدودية الأحكام في النص والخضوع للمصالح الدنيوية التي تقتضي النأي عن النص ليتناسب وإياها.
أهمية الكتاب
تبرز أهمية كتاب أصول التشريع الإسلامي التكميلية في أنه يُعنى بإبراز مختلف المواقف في المسألة الواحدة لأجل الوفاء للتاريخ في المقام الأول، ولإثبات أنّ الحقيقة متعدّدة ومتنوّعة، وأنه لا يمكن فريقًا من المسلمين أن يحتكر حقيقة واحدة يحاول الإيهام بأنّ خلافها غير موجود، وأن اختلاف المواقف إن وشى بشيء فإنما يشي بحركية فكرية بشرية ودنيوية جعلت النص الديني مجالًا لنشاطها.