صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "ترجمان" كتاب
مدخل إلى فكر الإسلام الاقتصادي من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر
Introduction à la pensée économique de l’Islam du VIIIe au XVe siècle، وهو من تأليف رامون فيرييه Ramón Verrier وترجمة خالد محمد جهيمة. يتألف الكتاب من قسمين وستة فصول، تتناول موضوع تاريخ الأفكار الاقتصادية الإسلامية وأسباب ندرتها في المؤلفات الغربية. يقع الكتاب في 296 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
يُعنى
علم تاريخ الأفكار بتطورها وتغيّرها عبر الزمن، وتشكّل الوحدات الفكرية
لبناته الأساسية، وهي بُنى لا تتغير، بل تنفصل وتلتحم عبر الزمن لتقدّمَ
ظواهرَ تاريخية جديدة وتحوُّلًا في الثقافة الإنسانية، وتتجلى مهمةُ مؤرخِ
الأفكارِ في اكتشاف هذه البنى ولحظاتِ مَدِّها وانحِسارِها، وارتباطِها
وانقطاعِها عبر الزمن.
يركز كتاب فيرييه على جانب من هذا العلم هو
تاريخ الفكر الاقتصادي عمومًا، الذي يهتم بدراسة الأفكار الاقتصادية عبر
الوجود الإنساني، والفكر الاقتصادي الإسلامي خصوصًا. وقد تطرق إلى تاريخ
الأفكار قبله جوزف شومبيتر في كتابه
تاريخ التحليل الاقتصاديHistory of Economic Analysis،
فأشار إلى فراغ كبير في التفكير الاقتصادي بين زمن الحضارة الإغريقية
والعصور الوسطى التي عاش فيها القديس توما الأكويني، وهي فترة تضم العصر
الإسلامي، فردّ فيرييه على مقولة شومبيتر هذه في الكتاب الذي بين أيدينا
بالرغم من جهله اللغة العربية، الذي عوَّضه بترجمات المؤلفات العربية إلى
الفرنسية والإنكليزية والإسبانية، إذ قدَّم فيه دراسةً عن الأفكار
الاقتصادية لعدد من المؤلفين المسلمين عبر حقب متعددة ومن خلال كتب ذات
طبيعة علمية متنوعة، فقهية وتاريخية وجغرافية وفلسفية، ولم يكن من بينها
أيُّ كتاب مخصص للاقتصاد سوى كتاب أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي عن
التجارة بعنوان:
اﻹشارة ﺇلى محاسن التجارة.
منهج الكتاب
يتألف
الكتاب من قسمين: خُصّص الأول لدراسة أسباب الجهل بالفكر الاقتصادي في
الإسلام، وأسباب عدم دراسة هذا الفكر بالرغم من تخطّي الرقعة الجغرافية
التي دانت للإسلام والتي خضعت للإمبراطورية الرومانية، كما تناول هذا القسم
أفكار بعض المفكرين المسلمين حول التحديات الاقتصادية التي واجهت العالم
آنذاك. وبرر طرح شومبيتر عن "الفراغ الكبير" وتبعية غالبية مؤرخي الفكر
الاقتصادي الإنساني له، بأنهم إما لم يعلموا بهذا الفكر لعدم نقل علوم
الإسلام إليهم فاستمروا في نسبة الصياغة الأولى لنظرية النقد الكمية إلى
جان بودان، ونظرية تكوين سعر الصرف إلى جيرارد دي مالينس، وهو احتمال
مستبعد، لثبوت انتقال الثقافة الإسلامية إلى الغرب المسيحي بقنوات عدة
يذكرها في الكتاب، أو أنهم لم يعيروا أهمية للإسهام الإسلامي في تاريخ
الفكر الاقتصادي ونفوا صفة العلمية عنه، معتبرينه مجرد ناقل للثقافة
الإغريقية، وهو ما فنّده الكاتب أيضًا بالتفصيل.
أما القسم الثاني،
فقد درس فيه أعمال فلاسفة وأطباء وجغرافيين ومؤرخين وفقهاء ومحتسبين مسلمين
بين القرنين الثامن والخامس عشر الميلاديين بادئًا بمن سماهم "الطليعيين"،
أمثال ابن المقفع وأبي يوسف والجاحظ وأحمد بن حنبل وأبي الفضل الدمشقي،
واستخلص عنهم أفكارًا اقتصادية كـ: خطر الاكتناز (ابن المقفع)، وضرورة
دوران النقد والثروة (ابن المقفع، والجاحظ)، ومسألة الضرائب العامة
المفرِطة والمضِرّة بالنشاط الاقتصادي (أبو يوسف)، وحرية الأسعار في سوق
تنافسية (أبو يوسف، وابن حنبل، والدمشقي)، ثم ثنّى بالفلاسفة، كابن سينا
والفارابي اللذين صمّما قواعد الحصول على الثروة وإدارتها، وابن مسكويه
الذي ركّز على فكرتَي تقسيم العمل وتكامله في المجتمع. وتناول فيرييه أيضًا
مؤلفين مسلمين نظَّروا للسوق، كالغزالي في كلامه عن التبادل التجاري
ومفهوم الربح وقضايا النقد والسوق والأسعار، والطرطوشي وحديثه عن ضرورة حسن
استخدام المال العام، وابن رشد في إشارته إلى وظائف النقد. ثم انتقل
المؤلف بعدها إلى "المحتسبين"، كابن عبد ربه صاحب فكرة "كثرة النقد تنقصه"،
والسقطي الذي درس الاحتكار في زمن الوفرة، وأن كتلة نقدية كبيرة جدًّا قد
تبعد السوق عن السعر الحقيقي. ويخصّ مؤلفُ كتابنا
المدخل ابنَ خلدون بالاهتمام الأكبر، واصفًا إياه
بـ "المغامر المؤرّخ"؛ إذ يتعرّض لتحليله الديناميكي للمجتمعات، وسقوط
الدول ونشوئها وعلاقة ذلك كله بالظواهر الاقتصادية المتعلقة، مثلًا، بالترف
وتأثيره في السكان، والعمل مقابل الندرة، وكذلك نظرية القيمة، واعتبار أن
الدولة هي السوق العظمى، أو أمُّ الأسواق، والعمل المباشر وغير المباشر،
وتكلفة الإنتاج، وعلم الاقتصاد النفسي ... وغيرها. ثم يذكر التلمساني
وكلامه عن العلاقة بين كمية النقد والتضخّم، معتبرًا نظريته تمهيدًا لنظرية
النقد الكمية، وأخيرًا المقريزي وكلامه عن تداول النقد الرديء ودوره في
ظهور التضخّم، وأسباب التضخّم، كالفساد والرشوة وزيادة الخراج وكثرة النقد
المتداول، وآثاره المدمّرة، مثل: عدم المساواة الاجتماعية، والانكماش
الاقتصادي وغيرهما.
الغرب والاقتصاد الإسلامي
لم تشهد الفترة
الممتدّة بين القرنين السابع والثاني عشر الميلاديين كتابة الشيء الكثير
عن الفكر الاقتصادي في الإسلام، وقد تأخرَ دور الأوروبيين في هذا حتى القرن
العشرين، حين ناقش الاقتصادي الفرنسي فرانسوا بيرو (François Perroux)
رسالته للدكتوراه في عام 1926 التي تصدّرتها الآية القرآنية
﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ (المطففين: 1)، في إشارة مقصودة من بيرو إلى خُلُق إسلامي قرآني يُعتبر مبدأً مؤسِّسًا في نجاح المعاملات؛ وهو الأمانة في الموازين.
وقد
بنى الاقتصاديون المسلمون قواعدهم الاقتصادية، النظرية والعملية، انطلاقًا
من مبدأ النزاهة، مؤسسين علمًا جديدًا، هو علم الاقتصاد العملي، الذي وضعه
قضاة استوعبوا خلال حكمهم في نزاعات المعاملات التجارية جميع صور الغش
الممكنة، المتعلقة بكمية البضائع أو نوعيتها أو أسعارها، فميّزوا السعر
الظاهر من السعر الحقيقي، وبيّنوا المكاسب الناتجة من الفساد، ونشروا ما
علموه في أوساط المستهلكين والمنتجين فأنشؤوا مقاربة عملية للاقتصاد، تلتها
بعد ذلك القواعد النظرية التي أعدّها الفقهاء والفلاسفة، الذين توحدت
كلمتهم رغم اختلافهم الدائم في أمور الدين الأخرى، بمجرّد أن تعلّق الأمر
باقتصاد السوق، الذي اجتهدوا في تفسير كيفية تسييره لتحقيق فائدة أفضل
للجميع.
ويجعل الاقتصاديون المسلمون الأوفياء للفكر الأرسطي من النقد
Monnaie آليةً للمساواة والعدل في المعاملات، ولذلك يستنكرون المقايضة
ويعتبرونها مناقضة للمساواة المنصوص عليها في الشريعة والتي جُعِلَت صنوًا
للحرية في المعاملات. لكن ابن مسكويه الفيلسوف يرى أن السوق لا تؤدي دائمًا
إلى المساواة بين الأغنياء والفقراء، ويطالب بنقل موارد الأغنياء إلى
الفقراء، في حين يحرِّم الماوردي الفقيه على السلطات الحاكمة التسبب بعجز
في الموازنة، ويظهر بهذا بعض الخلاف الطفيف بين الفلاسفة والفقهاء.
وقد
رأى الغزالي تجديد القواعد النظرية بعد أن شاخت، فطالب نظريًّا بإلغاء
الرق والسخرة، وإضافة طبقة النقلة وعمال التخزين، فاستحدث بذلك خدمات
تجارية لم تكن موجودة قبلًا، في حين وافقه ابن رشد بالإشارة إلى شيخوخة هذه
القواعد وعدم ملاءمتها العصر، لكنه لم يدعُ إلى تجديدها. وبعد قرنين فصّل
ابن خلدون المتشبّع بنهج ابن رشد، الرابطَ بين الدين والاقتصاد، فجعل
الأخير علمًا إنسانيًّا، واخترع علم الاجتماع الاقتصادي.
متابعة الجهود الأوروبية
أعاد كتاب
مدخل إلى فكر الإسلام الاقتصادي التطرّق إلى هذا
الموضوع، الذي أُهمل إلى درجة خاب فيها أمل الباحث عن التفكير الإسلامي في
مجال الاقتصاد، ظانًا أن هذا التفكير لم يوجد أصلًا، لندرته في كتب
الاقتصاد السياسي والفكر الاقتصادي الغربية المتأثرة بـ "التقليد"
الشومبيتري. إلا أن إعادة اكتشاف الجماعة العلمية في الغرب في خمسينيات
القرن العشرين ما ذخرت به أعمال ابن خلدون من كلام عن المشكلات الاقتصادية،
جعلها تراجع تفكيرها وترجّح أنه ربما لم يكن المؤلِّفَ العربي الإسلامي
الوحيدَ الذي اهتم بهذا النوع من المشكلات، فتبيّن لها من دراسة نصوص
الإسلام العربية، أن قانون العرض والطلب لم يكن سرًّا، وأن ابن تيميّة
والتلمساني والمقريزي كانوا يقولون إن "النقد الرديء يطرد الجيد"، وأن
ابن المقفع وأبا يوسف والماوردي وآخرين كانوا يؤكدون أن "كثرة الضرائب تقضي
على الضرائب" ... وغيرها.
من هم أولئك المفكرون المسلمون الكبار
الذين لم يكن الاقتصاد غريبًا عنهم وإن لم يكن في مركز اهتمامهم وقاربوه
ببراعة؟ ما أفكارهم ونظرياتهم في هذا الموضوع؟ هذا هو موضوع هذه الدراسة
الغربية التي تجري أول إحصاء غير حصري للمؤلفين العرب المسلمين الأساسيين
وأفكارهم الاقتصادية.
صعوبات البحث
لم تكن معرفة فكر الإسلام
الاقتصادي لمؤلف غربي عملًا سهلًا، فاللغة، وإن كانت عقبةً، إلا أنه
تجاوزها بفضل النصوص المترجَمة حتى اليوم، إلا أن خصوصية الفكر العربي
الإسلامي تجعل الاقتصادي غير الناطق باللغة العربية يرى عمله محدودًا كمًّا
أولًا، بسبب ندرة الترجمات الموجودة، ثم نوعًا، بسبب مدى دقة الترجمة
المطلوبة لنقل أمين لمضمون النص الأصلي؛ إذ لا يفرّق الفكر الإسلامي بين
مكونات الحياة الإنسانية المختلفة، فالدنيوي والروحي والديني شيء واحد فيه؛
إذ لا تُفسَّر العلوم والاقتصاد وغيرهما من دون إشارة إلى القيم الدينية
والأخلاقية، ولذلك فإن عزل الجانب الاقتصادي في كتابٍ ما قد يعرّض النص
لخطر تبديد المعنى والتأويل الناقص. وبناءً عليه، فإنه ينبغي إلى جانب
الترجمة الأمينة لنصوص أبرز المفكرين في مجال التداول الإسلامي، استشفاف ما
يمكن من الإضاءة الفقهية والدينية لكتاباته ورسائله مكملًا مثاليًّا لفهم
الجانب الاقتصادي.