صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "ترجمان" كتاب الاشتغال بالتاريخ: مشكلات جديدة، مقاربات جديدة، موضوعات جديدة Faire de l’histoire: Nouveaux problèmes, nouvelles approches, nouveaux objets، وهو ترجمة لأصل فرنسي صدر بين عامَي 1974 و1978 في ثلاثة مجلدات خُصص الأول منها لبحث المشكلات والثاني للمقاربات والثالث للموضوعات التاريخية. وقد قرر المركز العربي أن يضم ترجمة الأجزاء الفرنسية الثلاثة إلى العربية بين دفّتَي مجلد واحد، فخصَّص لكل من الأجزاء الفرنسية قسمًا بالتسمية نفسها، وصدَّرها جميعًا بمقدمة علمية غنية للمترجم.
كتاب الاشتغال بالتاريخ ضمَّ واحدًا وثلاثين بحثًا لثلاثين كاتبًا وباحثًا فرنسيًّا وآخر غير فرنسي يمثلون قامات مرموقة في علوم التاريخ، وهي أبحاث متقدمة في مجالها، كُتبت بأقلام مؤرخين بارزين في التأريخ الحديث القائم على نبذ الخطاب الإقصائي الذي كان سائدًا واعتماد خطاب كليّاني ودراسة علاقة التأريخ بوصفه علمًا بالعلوم الأخرى وتأثره بها سلبيًا وإيجابيًا، كما يتضمن عروضًا متناثرة في كلمات الباحثين عن أهم التيارات التاريخية. يتطرق الكتاب كذلك إلى أهم الشخصيات التي بُني علم التاريخ الحديث على أفكارها، وتأثيره في مجتمعات فرنسا الجمهورية الثالثة وأوروبا عمومًا. أشرف على الكتاب مؤرخان مخضرمان يُعتبران من أساطين علم التاريخ؛ هما جاك لاغوف Jacques Le Goffوبيير نورا Pierre Nora، وترجمه جمال شحيِّد، وراجعته ميرفت أبو خليل. يقع الكتاب في 896 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
وسط تشرذم التدوين التاريخي عن النظام الملكي وتناقضه في القرن التاسع بين مؤرِّخين ليبراليين ويساريين من جهة ويمينيين من جهة أخرى، برز في ظل الجمهورية الثالثة توجُّه جديد بعد حكومة "كومونة باريس"La Commune de Paris التي أسقطت نابليون الثالث في منتصف آذار/ مارس 1871 إثر الاجتياح البروسي المذلّ لشمال فرنسا في عام 1870، ثم قضت عليها القوات الفرنسية النظامية سريعًا في أيار/ مايو من العام نفسه، وكان هذا التوجه يهدف إلى تجاوز الخطاب الإقصائي واعتماد الخطاب العلمي، برز فيه إرنست لافيس Ernest Lavisse وشارل سينيوبوس Charles Seignobos وشارل فيكتور لانغلوا Charles-Victor Langlois.
انخرط في تحدي جعل التاريخ علمًا كلٌّ من مارك بلوخ Marc Bloch، ولوسيان فيفر Lucien Febvre، وإرنست لابروس Ernest Labrousse، فاهتمت مجلة الحوليات Les Annales في عام 1929 بـ "التاريخ الكلياني" وعلاقة التاريخ بعلوم كثيرة نجد بعضها في القسم الأخير من كتاب الاشتغال بالتاريخ، كما ساهمت مؤسستان أنشأهما فرنان بروديل Fernand Braudel؛ هما: "بيت علوم الإنسان" و"المدرسة التطبيقية للدراسات العليا"، بدراسات الإصلاح الجامعية التي أشرف عليها مع لابروس في المناطق الفرنسية والأوروبية، وكرّست منهجًا تاريخيًّا جديدًا نظرت أغلبية المؤتمرات التاريخية في مسائله ومصادره ووثائقه.
تعود نصوص الاشتغال بالتاريخ إلى ستينيات القرن العشرين وسبعينياته؛ إذ جرى في هذا التاريخ تأثُّر مؤرخي الحوليات وأساتذة التاريخ بالتيار البنيوي في العلوم الإنسانية وتلاقي أفكار بعضهم مع أفكار ميشيل فوكو Michel Foucault الصديق المقرَّب لـبيير نورا، المعتبَر من أساطير التاريخ الفرنسي؛ ما أفرز تركيزًا من أولئك على "التاريخ الجمعي"، والتاريخ الثقافي، وإهمالًا للجانب الاقتصادي. يقول نورا: "إننا نعيش عصر التفجّر التاريخي [...] لم يعد النص هو الوثيقة الأولى، فالنص غير المدوّن والأثريات والصور والتقاليد الشفوية توسّع مجال التاريخ. فالأعراض المتغيرة لدى الإنسان (جسده، غذاؤه، لسانه، تصوراته، أدواته التقنية والذهنية) التي كانت مهملة أصبحت الخبزَ اليومي للمؤرخين".
صدر كتاب الاشتغال بنسخته الفرنسية بين عامَي 1974 و1978 في ثلاثة أجزاء متفرقة؛ هي: 1. الاشتغال بالتاريخ: مشكلات جديدة، 2. الاشتغال بالتاريخ: مقاربات جديدة، 3. الاشتغال بالتاريخ: موضوعات جديدة، وقد جمع 31 بحثًا لكتّاب يتميّز كل منهم بأسلوبه وعقليته وثقافته ومنهجه، اختارهم المشرفان نورا ولوغوف ليكتبوا "دستورًا" للتاريخ، الذي يبقى على تنوعه موحدًا.
تعود شهرة مدرسة الحوليات إلى اهتمامها بعرض التاريخ الذي يدرس "الذهنيات" المفضية إلى دراسة السلوك والمشاعر والتصورات، كالعادات اليومية والتصرفات المُستعادة والتعبيرات اللاإرادية والموت والزواج والعائلة والجنس والجسد والصحة والتغذية والقرابة والمصاهرة. وبناء عليه، نشأ على هدي البنيوية تيار تاريخي اهتم بالأنثروبولوجيا، وطُبق على الحضارات القديمة، ولا سيَّما الإغريقية، فقدّم جان-بيير فرنان Jean-Pierre Fernand وبيير فيدال-ناكيه Pierre Vidal-Naquet ومارسيل دوتيان Marcel Detienne، ولوي جيرنيه Louis Gernet تطبيقات أنثروبولوجية متميزة في هذه الحضارة.
نقطة التحول
وبسبب التوجهات السالفة الذكر خفّت الشوفينية ونشأ تيار كوزموبوليتي فرنسي في التأريخ منفتح لا على أوروبا فحسب بل على العالم بشتى حضاراته وحقبه، وأقرت وزارة التربية كتبًا للتاريخ أكثر انفتاحًا على الحضارات والشعوب الأخرى، وخلال ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته خبا نجم مجلة الحوليات وأُعيد الاعتبار إلى التاريخ السياسي في التدوين التاريخي: الانتخابات، الرأي العام، وسائل الإعلام، المثقفون، الدين، السياسة، الحروب، اللغة السياسية، الذاكرة السياسية، الشعارات، الرموز، الهجرات، الجنس، المرأة، التاريخ الثقافي، وكان عمل نورا مطارح الذاكرة Les lieux de mémoire الأضخم في هذا الشأن.
رأي المشرفَين في الكتاب
يرى لوغوف ونورا أن كتاب الاشتغال بالتاريخ لا يطمح إلى إعطاء فكرة مكتملة عن الإنتاج التاريخي غير المحدود والمتوسِّع على الدوام، ويقرّان بأن ما دفعهما إلى الإشراف عليه هو الشهادات التاريخية المقدمة لبعض المشتركين فيه وتنوّعها، فقد قدّموا نمطًا جديدًا في التأريخ ليس نمط فريق أو مدرسة، وإنْ كثرت الإشارة إلى مدرسة الحوليات في أبحاث الكتاب فلأن التاريخ "الجديد" مدين كثيرًا لمؤرخيها بلوخ وفيفر وبروديل، وكذلك لمن ساروا على خطاهم من دون أن يُغفلوا التجديد.
ويطرح المشرفان سؤالًا استباقيًّا قد يسأله مَن يستعرض الكتاب قبل قراءته، وهو: كيف لكتاب أُريد له هَجْر القيود والانحيازات أن يَسقط في فخّ القومية ويكون جميع باحثيه، إلّا واحدًا، فرنسيين؟ ويجيبان بأن ما برّر خيارهما هو أن للمؤرخين الفرنسيين دورًا مهمًّا في تجديد التاريخ، وأن فريق الكتّاب وإنْ كانوا فرنسيين إلا أنهم قدِموا من آفاق شتّى، وينتمون إلى أجيال متعددة، ويكشفون عن تأهيل وانشغال مختلفين، وهم حلقة في سلسلة تفقه جيدًا طرائق تعايش الأنماط المقبولة للتاريخ المشرذَم حاليًّا، وأن هدف جمع بحوث لهم بين دفتي كتاب ليس تبرير هذا المشرذَم بل إبراز المفاصل القائمة بين طرائق البحث التاريخي اليوم، الذي تشهد اختصاصاته تحوّلًا عميقًا يمنح البشرية تاريخًا جديدًا.
الجدّةُ في "التأريخ" الحديث
تنجم الجدّة، برأي المشرفَين، عن عمليات ثلاث: مشكلات جديدة تضع علامات استفهام على التاريخ، ومقاربات جديدة تعدّل قطاعات التاريخ التقليديّة وتُثريها، وموضوعات جديدة تظهر في الحقل المعرفي للتاريخ.
إن إدراك المؤرخِين نسبية عملهم يُلزمهم بإعادة تعريف التاريخ بغير ما عرَّفه الوضعانيون Positivists أو أنصار التدخل الإلهي. إن سمة علمٍ يحمل موضوعُه وهويته معنى واحدًا ويراوح بين التاريخ المعيش والتاريخ المبني، أو المنفعل، أو المصنوع، تُجْبِر المؤرخين على التساؤل عن الأسس المعرفية لاختصاصهم.
وفي حال اقتحام علوم اجتماعية يتسيّد فيها العنصر الكمّي (الإحصاء، الاقتصاد ... وغيرهما) التاريخَ الجديد وتعرُّضِه لفرضياتها، فعليه أن يتبنّى الصرامة الإحصائية من دون التخلي عن العنصر الكيفي الإنساني، وأن يقيِّم فوائد الخضوع للعنصر المقيس ومجازفاته ليتجنّب الإفقار والبتر والتعزيز والإثراء.
يرفض التاريخ الجديد بإصرار فلسفة التاريخ، ومَن لا يجد مِن المؤرخين الجدد أيَّ رابط مع جيامباتيستا فيكو Giambattista Vico وجورج هيغل Georges Hegel وبينيديتو كروتشه Benedetto Croce وأرنولد توينبي Arnold Toynbee، لم يعد يكتفي بأوهام التاريخ الوضعاني، أو يهتم بصوغ مفاهيم قد تقوده إلى ما يختلف عن "تاريخه" الجديد.
أخيرًا، يؤكد التاريخ جدّته بضمِّ موضوعات جديدة كانت تفلت من سطوته وخارج حدوده.
استفزاز وتصدٍّ
إن مما ينبغي على التاريخ الجديد مكافحته هو استفزاز علوم إنسانية ذات حدود غائمة وجذبها إياه وتذويبه فيها بعد أن كان التاريخ وحده يحتل حقولًا ويفسِّر المجتمعات عن طريق الزمن، وتمارس "الإثنولوجيا" في هذا الجاذبيةَ الأكثر إغراء، وتشدّ أولوية المكتوب واستبداد الحدث نحو التاريخ البطيء وشبه الجامد، وتُعزز نزعةَ التاريخ إلى الغوص في المعيش اليومي والأمور العادية و"الصغيرة"؛ ما وضَعَ علامات استفهام على المنظومات الأكثر ضمانة للتفسير التاريخي، وخصوصًا توليفته الأكثر شمولًا وتماسكًا؛ أي الرؤية الماركسية.
تواجه استفزازاتٌ أخرى التاريخَ التقليدي يرسمها مفهوم "التاريخ المعاصر"، الذي يبحث عن نفسه في مقولات تاريخ فوري أولًا ولزمننا الحاضر ثانيًا، ترفض اختزال الحاضر بماضٍ شروعي، وتشكك في تعريف راسخ للتاريخ يتجلى في عدّه علمًا مرتبطًا بالماضي، ويحوِّل علم الآثار (الأركيولوجيا) التنقيبَ إلى مجموعة قراءات لمنظومات الأشياء، كما ينعقد التاريخ الاقتصادي حول بعض المقولات أو يتجاوز ذاته ويندمج تسلسليًّا في عنصر شمولي يتداخل فيه السياسي والنفسي والثقافي، ويعقّد التاريخ الديموغرافي من جهته نماذجَه بوضعها في مجموعة ذهنيات ومنظومات ثقافية. ويميل التاريخ الديني والأدبي والسياسي وتاريخ العلوم والفن إلى تاريخ كلّي بتركيزه على مفاهيم إجمالية مثل: المقدس والنص والرمز والسلطة والصَرْح ... وغيرها.
خلاصة وإشكالية
يُستخلص مما سلف أن نهم التاريخ الجديد كفِلَ التمكُّنَ من تقديم موضوعات أنموذجية، وهو ما فعله المشرفان لوغوف ونورا، فقدَّما عيّنات ذات دلالة، وتوقفا عند موضوعات مفارقة، لديمومتها الظاهرية كالمناخ والجسد والأسطورة والعيد، أو لميلها إلى التاريخ الثابت والدفين كالذهنيّة والشبيبة، أو بسبب علاقاتها بالعلوم الجديدة وتحوّلها نحو التاريخ كلاوعي التحليل النفسي ولغة الألسنية الحديثة والصورة السينمائية واستطلاعات الرأي العام، أو لسوقيّة التاريخ الحديث العهد كالمطبخ الدالّ على مجالين ذوَي أهمية متنامية في حقل التاريخ؛ هما الحضارة المادية والتقنيات، أو للثورة الكمية في التاريخ كالكتاب، المنتَج الجماهيريّ وليس النخبويّ. كما يُستخلَص أن التاريخ الجديد ضحية للعلوم الإنسانية التي تهاجمه بضراوة وتدمّره.
وبناء عليه، يُطرح هذا السؤال: هل بقي ثمة حيّز للمؤرخ؟ هل يولّد التاريخ وهمًا لاندماجه في مجال اختبار العنصر البشري، وهو الزمن؟ وإذا تجاوزنا تنوّع التواريخ المتعايشة، هل ثمة "تاريخ" بالمعنى المطلق للكلمة؟
ومع أن الكتاب يُبرز أن التاريخ يشهد اليوم تمدّدًا كبيرًا، فإنه يجد نفسه بشكل شبه دائم في خطر يتربّصه هو التيه في التساؤل عما إذا كان زمن الانفتاحات، الذي يسعى هذا الكتاب إلى تبيانه، سيُخلي المكان لزمن الانحسار في وقتٍ يتم تقدّم العلوم بالقطع والبتر أكثر من التوسع والتمدد.
يقول المشرفان في آخر مقدمتهما على الكتاب إن المهم ليس الحلم بمكانة ماضية أو مستقبليّة، بل معرفة كيفية صناعة التاريخ المحتاج إليه، والذي يضاف فيه إلى معرفة التحكم بالماضي ووعي الزمن تحديدُه كعلم يُعنى بالتغيير والتحول، ولذا أُريدَ لهذا الكتاب أن يكون تشخيصًا لوضع التاريخ في صميم الحاضر، ومبيِّنًا للسبل التي سيسلكها أو يجب أن يسلكها التاريخ في المستقبل، وأن يعرض أكثر من طريقة لصنع التاريخ. إنه يطمح إلى إضاءة التاريخ الذي يجب أن يُصنَع.
كتاب الاشتغال بالتاريخ أشبه بموسوعة علوم تاريخية معاصرة في فلسفة التاريخ، والمقاربات الجديدة للتاريخ، وعلاقة التاريخ بشتى العلوم الإنسانية. ولا تزال أهمية هذا السفر شاخصة حتى يومنا هذا مع أنه كُتب في منتصف سبعينيات القرن العشرين.