صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب وثائق الأمم المتحدة في المسألة الليبية (2011-2018)، وهو من إعداد الباحث عبد الحميد صيام والباحثة المساعدة إنعام سالم. يحشد الكتاب وثائق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية وتقارير المبعوثين الدوليين الخاصة بوساطة الأمم المتحدة في النزاع الليبي على مدى سبع سنين. ويتألف الكتاب من قسمين؛ خُصص الأول منهما لشرح بداية الصراع على الأرض الليبية وتوسّعه وتعدد الفاعلين فيه ومتابعة مجلس الأمن والأمم المتحدة كل الفوضى والانقسامات في الأراضي الليبية ولما تزل مستمرةً، وساطةً وتقاريرَ وقراراتٍ ورسائلَ وبيانات، في حين خُصِّص القسم الثاني لعرض هذه الوثائق. يقع الكتاب في 656 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ليبيا: انتفاضة مبكرة ومراوحة للانقسام
بعد انتفاضة الربيع العربي في سيدي بوزيد التونسية أواخر عام 2010 وهروب الرئيس زين العابدين بن علي، كان لإسقاط الاحتجاجات في مستهلّ عام 2011 رئيسَ النظام المصري محمد حسني مبارك أثَرٌ في قدح زناد احتجاجات اليمن والبحرين وليبيا والمغرب والجزائر والأردن وليبيا، وكانت الأخيرةُ الأشدّ تأثرًا؛ إذ انطلقت فيها التظاهرات الصاخبة بعد ستة أيام فقط من تنحّي مبارك؛ ما دفع معمر القذافي إلى التهديد باستخدام العنف لسحق المتمردين، فجمّدت الجامعة العربية عضوية ليبيا، ومهّدت لتدويل القضية الليبية خشية ارتكاب القذافي مجازر. ثم دُعيَ نائب سفير ليبيا لدى الأمم المتحدة إبراهيم الدباشي بعد انشقاقه عن النظام وانضمامه إلى الثورة، إلى جلسة لمجلس الأمن في 26 شباط/ فبراير، واعتمدت بالإجماع القرار (1970) تحت الفصل السابع (التنفيذ ملزم)، الذي طالب بوقف العنف فورًا، وتأمين الأجانب في ليبيا واحترام حقوق الإنسان، كما فرض حظرًا شاملًا على توريد الأسلحة إلى ليبيا أو تصديرها منها، وكذلك فرض عقوبات على القذافي وأعوانه، وأحال الملف الليبي إلى المحكمة الجنائية الدولية.
بعثت الأمم المتحدة عبد الإله الخطيب إلى ليبيا بمهمة تأمين وقف إطلاق النار والتقيد ببنود القرار (1970)، لكن القذافي استمر في استخدام القوة المفرطة ضد انتفاضة شعبه، فاعتمدت الجامعة العربية القرار (7360) وبعثت بموجبه رسالة إلى مجلس الأمن تطالبه بالتدخل لحظر الأجواء الليبية على الطيران، وتكريس مناطق آمنة لحماية المدنيين الليبيين والأجانب. لكن ذلك لم يؤثر في القذافي، فاعتمد مجلس الأمن القرار (1973) في آذار/ مارس، الذي قضى باستخدام القوة، ومنذ ذلك الحين ازدادت أهمية ستة مبعوثين لحلّ النزاع الليبي جرى تعيينهم بين عامَي 2011 و2018، لكنّ مهارات هؤلاء المبعوثين لم تنجح حتى بعد إطاحة القذافي في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 في توحيد ليبيا، التي ظلت أراضيها منقسمة بين الميليشيات المسلحة.
انتخابات حرة أملٌ تبخّر
أفرزت أول انتخابات حرة في ليبيا (7 تموز/ يوليو 2012) برلمانًا منتخبًا حازت فيه "جبهة الائتلاف الوطني"، بقيادة محمود جبريل، 48 في المئة من المقاعد، و"حزب العدالة والبناء" (إخوان) 10 في المئة منها، لكن فشل هذا البرلمان في تطبيق مقترح الأمم المتحدة في نزع سلاح الميليشيات وتسريحها وإعادة إدماجها، فقد كانت أقوى من الحكومة المركزية؛ إذ اغتالت في 11 أيلول/ سبتمبر 2012 السفير الأميركي جون كريستوفر ستيفنز، ثم سيطرت مجموعة "أنصار الشريعة" المصنّفة من مجلس الأمن "إرهابيةً" على بنغازي.
ومع الانتخابات التي أفرزت برلمانًا جديدًا في تموز/ يوليو 2014 بخسارة الإسلاميين، رفضت "جبهة الائتلاف الوطني" التخلي عن السلطة، فدخلت ليبيا في انقسام حادّ، ليعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر مدعومًا ببقايا جيش القذافي ومجموعات قبَلية وميليشيات، ما سماها "عملية الكرامة" الهادفة إلى طرد الميليشيات الإسلامية، فتكتّلت في وجهه بطرابلس ومصراتة ميليشياتٌ بعضها إسلامي تحت مسمّى "فجر ليبيا"، فحاول المبعوثون، بدءًا ببرناردينو ليون، رأب الصدع بين حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بقيادة فايز السراج، المعترف بشرعيتها بـ "الاتفاق السياسي الليبي" (17 كانون الأول/ ديسمبر 2015) الناتج من مفاوضات قادها ليون في الصخيرات المغربية والمُقَرّ في مجلس الأمن يوم 23 من الشهر نفسه، وبين برلمان شرعي في طبرق يمنح الشرعيةَ للحكومات الليبية لكنه لم يمنحها لحكومة السراج لأسباب، من بينها ضغط جيش حفتر.
وفي ظل الانقسام سرعان ما تحوّل النزاع الليبيّ - الليبيّ إقليميًّا ودوليًّا؛ ما صعَّب التسوية السياسية إلى حد كبير، بسبب الخروقات الكثيرة لقرار حظر التسليح، وتدخل بعض الدول مباشرة بالطائرات المسيرة أو النفاثة، وإمداد حلفائها بالمعلومات الاستخبارية والأموال.
المسألة الليبية: اهتمام دولي دؤوب ووثائق
استقرت المسألة الليبية، منذ البدايات الأولى للحراك الشعبي، بندًا ثابتًا في أعمال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويرصد كتاب وثائق الأمم المتحدة تطورات المسألة الليبية، استنادًا إلى الوثائق الصادرة عن قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وبيانات الأمين العام للأمم المتحدة، ونشاطات المبعوثين الخاصين الستة بين عامَي 2011 و2018. ولا بد من الإشارة إلى أن أزمات ليبيا لم تتوقف عند الحد الزمني المرصود للدراسة في هذا الكتاب؛ أي عند عام 2018، بل تعقدت بعده أكثر مع هجوم حفتر، أحد ضباط الرئيس القذافي السابقين، على طرابلس العاصمة في 4 نيسان/ أبريل 2019، وما تلاه من تطورات.
العمل مع الوثائق.. جهد مضنٍ
لمّا كانت مراجعةُ وثائق سبع سنين من قرارات مجلس الأمن الخاصة بليبيا وجمعُها وتصنيفُها وغربلةُ المتكرر منها والتنبّهُ إلى إعادة اللاحقة منها إنتاجَ أجزاءٍ أساسيةٍ من التقارير السابقة واستنباطُ الدروس منها، عملًا مضنيًا ويتطلب جهودًا جبارة، فقد اختار مؤلّفا الكتاب عينات من تلك التقارير، تُغني عن شبيهاتها وتفتح المجال أمام الدارسين الذين يرغبون في الاستزادة مستقبلًا، ومثال على ذلك أنه بسبب التكرار في تقارير فريق حقوق الإنسان لأجزاء من الملاحظات والتوصيات بتواريخ وأرقام وأماكن معدّلة، نشر الكتاب تقارير مهمةً وترك غيرها، ليس لأن الأخرى ليست ذات أهمية، بل لجعل حجم الكتاب معقولًا، فقد خشي المؤلّفان بلوغ الوثائق آلاف الصفحات. كما لم يدرجا المرفقات والأشكال والصور والخرائط الواردة في الوثائق، مع وضعهما إحالة إلى مواطن الحذف في هوامش تحمل توقيعهما تسهيلًا لعودة الباحثين الراغبين في التوسع إلى القرارات.
وقد استُهلّت الوثائق بنشر قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع، وهي الأهمّ في الموضوع الليبي، وأهمها ثلاثة قرارات هي: القرار 1970 لعام 2011 "فرض عقوبات دولية على نظام القذافي وتفويض المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائمه ضد المدنيين"؛ والقرار 1973 لعام 2011 "الإذن لدول المجلس باتخاذ تدابير لحماية المدنيين المعرضين لهجمات في ليبيا"؛ والقرار 2259 لعام 2015 "خريطة طريق لتسوية المسألة الليبية سلميًّا"، وصولًا إلى أخرى صدرت حين تحول النزاع المحليُّ إقليميًّا ودوليًّا وبالوكالة؛ ما زاد في تعقيد مهمات المبعوثين الدوليين لحلِّه، إضافة إلى شلّ عمل المحكمة الجنائية الدولية نتيجة عدم تعاون الأطراف معها، أو احتجاز الميلشيات عددًا من أصحاب الأسماء المطلوبة، مثل احتجاز سيف الإسلام القذافي لدى ميليشيا الزنتان.
وقدّم الكتاب مقتطفات عن كل مبعوث دولي لحل الأزمة الليبية، وكانوا ستة من أمهر المتخصصين في التفاوض، وأورد مداخلة أو أكثر لكلٍّ منهم توضح رؤيته وبرنامجه للحلّ، وقد أظهر توجُّهَ الثلاثةِ الأوّلين لبناء مؤسسات حكومة انتقالية ثم إجراء انتخابات، في حين انصبت جهود الثلاثة الآخرين على وقف الصراع المسلح منذ عام 2014.
أما مجلس حقوق الإنسان، فأصدر منذ عام 2011 تقارير بالانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان في ليبيا، لمواطنين ونساء وأطفال ومهاجرين عابرين وظروف اعتقالهم، وأورد الكتاب عيّنة منها مع مواقعها على شبكة الإنترنت.
وضم الكتاب بعد قرارات مجلس الأمن بخصوص ليبيا (وعددها اثنان وثلاثون قرارًا) بيانين صادرَين عن رئيس مجلس الأمن، للأهمية الخاصة التي تكتسيها القرارات الرئاسية؛ إذ إنها تصدر بإجماع الأعضاء الخمسة عشر ولو استمرت المفاوضات حولها أيامًا، ولاعتبارها وثائق رسمية للأمم المتحدة ذات أرقام تسلسلية. وتلا البيانين الرئاسيين جميعُ تقارير الأمين العام بشأن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (بلغ عددها ثلاثة وعشرين تقريرًا ورسالة واحدة)، ثم وردت بعدها وثائقُ قراراتِ الجمعية العامة وتقاريرها حول المسألة الليبية (قرار وتقريران). ويعرض الكتاب عينةً من وثائق فريق الخبراء المعني بمراقبة حظر توريد السلاح بموجب القرار 1973 "التقرير النهائي لفريق الخبراء"، وأخيرًا يستعرض تقارير مجلس حقوق الإنسان المتعلقة بليبيا وقراراته (ثمانية تقارير وخمسة قرارات).