صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب كمال عدوان: رجل في ثورة.. وثورة في رجل، من تأليف الباحث أحمد عزم. يناقش الكتاب فكر قائد ومفكر فلسطيني قضى نحبه، وهو في ريعان شبابه وقمة عطائه، على درب الشهادة من أجل فلسطين. والكتاب وإن كان يصدر بعد 51 سنة من موت صاحب موضوعه، فإن ما يشفع له أهمية الكلام عن فكر قائد فلسطيني مُلهِم تقلّ الكتابات عنه إجمالًا. يقع الكتاب في 456 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
إعجاب فـ "فكرة" ثم تنفيذ
كمال عدوان هو أحد أهم القادة الفلسطينيين وعضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" وعضو المجلس الوطني الفلسطيني (1963) ومسؤول مكتب الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية وقائد "الجهاز الغربي" المسؤول عن الأرض المحتلة منذ عام 1971 حتى اغتالته إسرائيل مع القائدين كمال ناصر وأبو يوسف النجار في منطقة فردان بالعاصمة اللبنانية، في 10 نيسان/ أبريل 1973.
بدأ اهتمام أحمد عزم بالكتابة عن عدوان انطلاقًا من أفكار الأخير التي تفيد إدخال الثورة في البناء الاجتماعي وشخصية الإنسان؛ أي بناء جيل ثوري، قبل إطلاق العمل العسكري، أو بمعنى آخر "تذويت" الثورة (جعلها جزءًا من الذات). وقد انتقلت الفكرة إلى حيز التنفيذ حين أخبرته الكاتبة والمترجمة والصحافية الفلسطينية رشا عبد الله سلامة أنها أعدت تقريرًا عن الشهيد، بمساعدةٍ من عائلته، ونشرته في كتاب إضاءات فلسطينية عن كوكبة من الأعلام الفلسطينيين، وأنها توصلت إلى ضرورة توثيق تجربة عدوان في كتاب، واقترحت عليه لقاء العائلة لهذا الغرض، وقد التقى بعائلة عدوان (28 شخصًا في غزّة وعمّان)، فقدمت له بكل ترحاب وصبر وكرم مواد وأرشيفات وعشرات المقابلات والاتصالات والحوارات والتعقيبات على المخطوطات الكثيرة، ولولا مساهماتهم – حسب ما بيّن الكاتب - لما خرج هذا الكتاب بهذه الصورة.
ثم قابل عزم سيدات وسادة في فلسطين والأردن ولبنان وقطر شهدوا مرحلة عدوان، وكانوا شركاءه في تأسيس حركة فتح وفي الإعلام وفي "الجهاز الغربي"، فقدموا له شهاداتهم ومخطوطات مذكراتهم وأرشيفهم، وكان لهم فضل كبير على الكتاب، كما كان للقيمين على مشروع توثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عمان، وبينهم أصحاب تاريخ نضالي عريق، دور في حفظ أرشيف الشهيد إلكترونيًّا، وكانوا المعينين في تسهيل المقابلات التي أجراها الكاتب في عمّان، وقرؤوا مسوّدات الكتاب وقدّموا ملاحظات قيّمة عليه.
أهمية الكتابة عن عدوان وفكره
تقدّم يوميات الشهيد كمال عدوان، ورسائله إلى أصدقائه، وكتاباته الموجهة إلى الرأي العام، أو داخليًّا إلى "فتح"، وخصوصًا غير المنشورة منها، صورةً عن التحول في تصورات جيله لثلاثة أمور مصيرية: الوطنية الفلسطينية، والعمل ضمن إطار أمة، والتحرك ضمن إطار وطنية خاصة، كما أنها توضّح فكرته عن بناء تنظيم شعبي واسع يمتلك أذرعًا إعلامية، وحركة وطنية بلا أحزاب أو أيديولوجيا، تستبدل تنظيمًا حركيًّا واسع العضوية بالتنظيم الحزبي المؤدلج، ومساهمته في تدريب الكوادر الفلسطينية والعربية المناضلة وإعدادها سياسيًّا وثقافيًّا وعسكريًّا، ونجاحه مع كوادر فلسطينية أخرى في الوصول إلى المثقفين المؤمنين بحركات التحرر ضد الاستعمار واليسار في أوروبا فوضع حركة فتح على خريطة النضال العالمي، حتى بلغ نشاطه أميركا الجنوبية وأوروبا وآسيا والولايات المتحدة الأميركية، ولا عجب بعدها في تلقيب ياسر عرفات ورفاقه في حركة فتح الشهيد عدوان بـ "معمل الأفكار"، هذه الأفكار التي ازدادت وضوحًا بعد نشر منظمة التحرير كتابًا حوى تسع عشرة مقالة ومقابلة لعدوان بعنوان فتح: الميلاد والمسيرة.
يحاول هذا الكتاب دراسة سيرة رجل أعاد بناء ذاته بالتعليم والعمل وتفرَّغ للثورة كليًّا وأعاد بثّ الوطنية الفلسطينية، وكان مفكرًا رفع شأنَ العامل الفلسطيني الذاتي في التحرير. والكتاب أيضًا تأريخ للحركة الوطنية الفلسطينية وتفاعلاتها فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا، يدقق في الروايات المتداوَلة، ويسائل المسلّمات المبتوتة، كما يراجع معنى "الفكرة الوطنية" التي تبنّتها حركة فتح وعبّر عنها عدوان في ممارسته السياسية وكتاباته المنشورة وغير المنشورة، التي لم تنل حظها من الاهتمام، ومن ثم لم تحصل تجربة عدوان على ما تستحق من الاهتمام لأسباب سلف ذكرها، يضاف إليها تفرُّق فريقه بعد استشهاده، إما بخروج بعضهم من حركة فتح أو إبعادهم عنها، أو استشهاد بعضهم.
مضمون الكتاب
يحتوي الكتاب على يوميات غير منشورة ومنتقاة من دفاتر عدة لعدوان، بدءًا من عام 1953، معظمها رسائل إلى أصدقائه، لكن ردودهم عليها غير متوفرة. ويتضمن مشاريع أعمال أدبية وروايات وقصصًا لعدوان، وقد ذكرت زوجته السيدة مها الجيوسي أنها 12 رواية وقصة قصيرة لا يتوفر بين أوراقه حاليًّا سوى جزء منها، وأنها أودعتها مع أوراق أخرى له ومذكرات مهمة عن مرحلة تأسيس حركة فتح ومخططات سياسية ونضالية بخط يده، نهايةَ السبعينيات لدى صديقه ورفيق دربه خليل الوزير في دمشق، ويبدو أن هذه الأوراق المهمة قد فُقدت عندما داهمت القوات السورية المنزل في الثمانينيات. كما يحتوي الكتاب على مذكرات أشخاص عاصروا عدوان، بعضها منشور وبعضها اطلع عليه الكاتب وهي في طور النشر؛ وبعضها نُشِر خلال إعداد الكتاب، وبعضها نُشِر لاحقًا، وبقي جزءٌ وهو أوراق شخصية قد لا تنشر أبدًا، إضافة إلى أرشيف واسع من الصحف والمجلات والكتب العربية والأوروبية والأميركية والإسرائيلية التي غطت فترة عدوان باللغات العربية والعبرية والإنكليزية، أضف إلى كل ذلك إصدارات حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية.
مادة غنيّة برغم الصعوبات
من الصعوبات التي واجهها الكاتب في اللقاءات الممهِّدة للكتاب (أجريت عام 2016) عدم رغبة أقرب الناس إلى عدوان بالكلام، زوجته السيدة أم رامي، وكان رأيها أن الكلام بعد 43 عامًا من الحادثة سيؤدي إلى تشويش الذاكرة بأحداث ربما مُسح بعضها، وهو ما ضاعف أمام الكاتب صعوبة المقارنة بين الروايات والبيانات والوثائق المكتوبة (المنشورة وغير المنشورة) وتحليلها، للوصول إلى فهم أفضل للسياقات التاريخية للوقائع والأحداث. ومن الصعوبات أيضًا تشكّي بعض مَن قابلهم من صعوبة التذكّر بعد مرور هذه الأعوام.
وبرغم الصعوبات استطاع الكاتب حيازة حصيلة غنيّة من التفاصيل التاريخية أدت إلى إزالة الخشية من المقارنة بين الروايات الشائعة للوصول إلى فهم عميق لبعض الأحداث والكشف عن منهجية تفكير الشباب الذي أعاد تأسيس العمل الفلسطيني في الستينيات.
رواية الاغتيال
يتدرج الكتاب في حياة عدوان وفق المراحل الزمنية، باستثناء فصله الأول الذي بدأ من النهاية، من لحظة تنفيذ كوموندوس إسرائيلي في 10 نيسان/ أبريل 1973 عملية اغتيال عدوان. وفي تفاصيل ذلك، اعتقل قائد شرطة مدينة طرابلس النقيب عصام أبو زكي في 11 تموز/ يوليو 1973 شخصًا يدّعي صفة السائح الألمانيّ ويحمل جواز سفر مزورًا باسم أورلخ لوسبرغ، تبيَّن أنه الضابط في الموساد داني ياتوم (وصل بين عامَي 1996 و1998 إلى رئاسة هذا الجهاز)، الذي اعترف لأبو زكي بأنه كان يخطط مع أعضاء آخرين في الموساد لاغتيال قائد فلسطيني آخر هو سعيد السبع في طرابلس، لتبدأ بعدها الضغوط للإفراج عن ياتوم بعد اعتقاله، كان أولها من الرائد في الكفاح المسلح الفلسطيني إبراهيم البطراوي، بحجة أنه مناضل يناصر قضية فلسطين، على غرار كوزو أوكاموتو وكارلوس، فرفض أبو زكي وواجهه باعترافات ياتوم، الذي انتقل ملفه بعدها إلى بيروت وتابعه المحقق العسكري إلياس عساف، فتعرض الأخير لضغوط من السفير الألماني ولتر نوفاك وضابط للاستخبارات الأميركية في بيروت يدعى روبرت آميس لإبعاد أبو زكي عن الملف كي لا يدلي بشهادته في المحكمة العسكرية، وهو ما حصل، فحُوِّل ملف لوسبرغ وعشرين آخرين إلى القاضي أسعد جرمانوس في المحكمة العسكرية، ومحامي الدفاع الوزير السابق رشيد درباس، وفي ما يشبه الصفقة السوداء جرى ترحيل هذا الصيد الثمين من لبنان وإغلاق ملفه بظروف غامضة.