صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب أدب السجون السوري: بويطيقا حقوق الإنسان Readings in Syria Prison Literature: The Poetics Human Rights، ضمن سلسلة ترجمان. وهو من تأليف ريبيكا شريعة طالقاني، وترجمة حازم نهار. ويقع في 312 صفحة، شاملًا تقديم المترجم ومقدمة وخاتمة ومراجع وفهرسًا عامًّا، إضافةً إلى قائمة رسوم وصور توضيحية.
على الرغم من أنّ المؤلفة طالقاني اعتمدت مقاربة تستند إلى الكتابة الأكاديمية، من خلال توظيفها دراسات أدب السجون وحقوق الإنسان، فإنّ الكتاب يظلّ في متناول جمهور واسع من القراء، فهو لا يهدف إلى تقديم سردية تاريخية عن السجون السورية، ولا إلى أرشفة مسار الحركات الحقوقية في البلاد، ولا إلى توثيقٍ شامل للاعتقالات والتعذيب والانتهاكات، وإن كنّا نطلّ على جوانب من هذه السياقات في أثناء القراءة، فإنّ الغاية الأساسية للعمل تتجلّى في تعريف القارئ بأدب السجون السوري، ومضامينه المتعلّقة بالكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، فضلًا عن تتبّع تطوّر أشكاله الإبداعية وتنوّع تعبيراته عبر الزمن.
أدب السجون: حقوق الإنسان متوشحة "بويطيقا"
يمثّل الكتاب إضاءة لافتة على العلاقة المتشابكة بين الكلمة والحق والحرية؛ إذ إنه ينظر إلى الكتابة بوصفها فعلًا مقاومًا وأخلاقيًّا، لا يقلّ شجاعة عن البقاء ذاته في أقبية القمع. في هذا الإطار، يعقد الكتاب مقارنة بين أدب السجون في سورية وتجارب مشابهة في العالم، مثل تجربة نيلسون مانديلا وعبد الرحمن منيف، كاشفًا عن طابعٍ خاص بالسجون السورية يتسم بوحشية متفرّدة، تجعل من كل كلمة تُكتَب من داخلها أو عنها عملًا بطوليًّا أخلاقيًّا ومقاومًا.
تعرض أعمالٌ مثل القوقعة لمصطفى خليفة، ومن تدمر إلى هارفارد لبراء السرّاج، نماذجَ حيّة من هذا الإبداع في وجه القمع. وحتى قبل عام 2011، كتب معتقلون أعمالًا كاملة، مثل عماد شيحة الذي ألّف ثلاث روايات خلال أسره، وظلّ بعضها سرًّا حتى وجد طريقه إلى النشر.
في هذا السياق، تتحوّل الكتابة من مجرد توثيق فردي إلى دفاع عن الذاكرة، وإلى صوغ صوت جماعيّ يواجه النسيان والإلغاء، ويُصرّ على تثبيت معاني العدالة والكرامة. والفكرة المركزية التي تنهض عليها الدراسة هي الربط بين أدب السجون وخطاب حقوق الإنسان، بما يشمله من منظومات وقوانين ورموز. فترى المؤلفة أنّ نصوص هذا الأدب تقدّم مشاهد اعتراف سردية لا تُظهر فداحة المعاناة التي يكابدها المعتقلون فحسب، بل ترتبط في الوقت نفسه بخطاب حقوق الإنسان العالمي، بما يحوّل هذه النصوص إلى أدوات وعي سياسي وأخلاقي.
من هنا، تتناول طالقاني مفهوم "بويطيقا الاعتراف"، فتدرسه فنيًّا وأسلوبًا، وتربطه بمفهوم الاعتراف السياسي الذي يُعدّ من الركائز الأساسية في خطاب حقوق الإنسان الحديث، خصوصًا في القرن العشرين. ولم يكن اعتمادها مصطلح "البويطيقا" في عنوان الكتاب ترفًا لغويًّا محضًا، بل هو استدعاء واعٍ لمفهوم نقدي ذي جذور فلسفية وجمالية عميقة؛ لأن الكتاب يعالج النصوص الأدبية ووثائق حقوق الإنسان بوصفها مادة فنية ومعرفية، ويستقصي الكيفية التي تُحدث بها هذه النصوص أثرها الجمالي والحقوقي في آن.
أما البويطيقا، فهي كلمة يونانية ارتبطت باسم أرسطو، الذي عنون بها كتابه الشهير فن الشعر. وعُرفت بالفرنسية Poétique وبالإنكليزية Poetics، وكلتاهما متحدرة من الكلمة اللاتينية Poetica المشتقة من الكلمة الإغريقيةPoietikos ، لتحمل في هذه اللغات كلّها معانيَ تتصل بصناعة الشعر ونظريته وفنونه. أما في الثقافة العربية، فقد تنوّعت ترجمتها وتجلّياتها، فوردت بصيغٍ شتّى: نظرية الشعر، وفن الشعر، وصناعة الشعر، وقواعده، وصوغ اللغة الشعرية، والإنشائية، والبنية الشعرية، والشاعرية، والشعريات، وغير ذلك؛ ما يعكس ثراء هذا المصطلح وتشعّب دلالاته في الحقول الأدبية والنقدية.
أدب السجون في السياقَين العالمي والحقوقي
ينقلنا كتاب أدب السجون السوري: بويطيقا حقوق الإنسان لاحقًا إلى مقاربة أدب السجون في السياق العالمي، مؤكّدًا أن تجربة الكتابة خلف القضبان ليست حكرًا على سورية أو على المنطقة العربية. ويعرض نماذج من تجارب سجناء سياسيين أو أفراد من الأقليات في الولايات المتحدة الأميركية، ومعتقلي غوانتانامو، ومهاجرين مثل الكردي الإيراني بهروز بوجاني، الذي فاز بجائزة أدبية مرموقة عن كتابه لا صديق إلا الجبال.
ويكشف الكتاب عن تداخُل هذا الأدب مع دراسات حقوق الإنسان، حيث باتت السرديات الفردية، كالروايات والمذكّرات، أدوات أخلاقية وحقوقية، وفق ما يتجلّى في أعمال كاي شافير وسيدوني سميث. ويتوقف عند الجدل النقدي في الأدب العربي حول تصنيف أدب السجون أيضًا، بين مَن يراه شهادة مقاومة، ومن يعتبره عملًا أدبيًّا صرفًا، كما في كتاب نزيه أبو نضال أدب السجون.
تحولات الكتابة بين الألم والجمال
تستعرض المؤلفة تطورات هذا الأدب في ستة فصول متكاملة، في ضوء "التحول التجريبي" في الأدب العربي الحديث، وتبرز كيفية تجاوز أدب السجون السوري الوظيفة التوثيقية إلى فضاء أدبي وجداني يتفاعل مع الأسئلة الجمالية والوجودية الكبرى.
يتناول الفصل الأول مسألة تصنيف "أدب السجون" بوصفه نوعًا أدبيًّا قائمًا بذاته، مشددًا على أهمية النظر إليه من زاوية سياسية، على الرغم ممّا يحيط بهذا التصنيف من إشكالات نظرية. ويتوسّع الفصل في عرض المناقشات الدائرة بين الكتّاب والباحثين حول اعتبار أدب السجون جنسًا أو نوعًا أدبيًّا، مستعرضًا المسارات المختلفة لنظرية النوع الأدبي في هذا السياق. وعلى الرغم من أن المؤلفة تدرك ما يكتنف هذا التصنيف من معضلات وحدود، فإنها ترى في استخدام مصطلح "أدب السجون" ضرورة سياسية لا غنى عنها. وانطلاقًا من هذا الفهم، يُدرَس أدب السجون بوصفه نوعًا أدبيًّا محدّد المعالم، وقد طغى على مقاربته في النقد الأدبي العربي، غالبًا، البُعد التوثيقي والجنوح إلى النزعات التوفيقية التي تحاكي أحيانًا أسلوب تقارير حقوق الإنسان؛ ما يحجب الأبعاد الجمالية والإنشائية الكامنة فيه.
وينطلق الفصل الثاني من حادثة أطفال درعا التي كانت الشرارة الأولى لانطلاق الثورة السورية، ليربط هذه الحادثة بمفهومَي "الاعتراف" و"الهشاشة الأدبية"، مستندًا في مقاربته إلى نظريات تيرانس كيف، وجوديث بتلر، وبريان تورنر. ويقدّم من خلال ذلك مفهوم "بويطيقا الاعتراف" بوصفه تجلّيًّا لفشل النظام الحقوقي التقليدي، ومحاولةً لتشكيل وعي عاطفي جديد لدى القرّاء. وتفترض المؤلفة أنّ التحول السريع الذي جعل من قصص أطفال درعا رمزًا للانتفاضة السورية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوعات الاعتراف والهشاشة والتعاطف، وهي موضوعات تتجلّى بوضوح في القصص القصيرة لكتّاب مثل سميرة خليل وغسان الجباعي، وكذلك في مسرحية وديع اسمندر. وانطلاقًا من دراسات الاعتراف في النظرية النقدية ونظرية حقوق الإنسان، بما في ذلك أعمال كيف وبتلر وتورنر، ترى المؤلفة أنّ بويطيقا الاعتراف في أدب السجون السوري تستحضر أشكالًا بديلة من الهشاشة، قد تعكس خطاب حقوق الإنسان التقليدي أو تتجاوزه أحيانًا لتقع خارجه، مشكِّلةً بذلك إمكانيات جديدة للكتابة ولإعادة تمثيل المعاناة.
ويعالج الفصل الثالث تمثيلات التعذيب كما تتبدّى في الأدب وتقارير حقوق الإنسان، ويُجري مقارنة دقيقة بين صوت الضحية المغيّب في التقارير الحقوقية، والذات المتكلمة والناطقة بوجعها في النصوص الأدبية، كما في كتابات فرج بيرقدار وحسيبة عبد الرحمن. وانطلاقًا من المناقشة التي قدّمها الفصل الثاني حول مفهومَي الهشاشة والاعتراف، يُتابع هذا الفصل تحليل تلك المفارقة، ليقدّم قراءة مقارنة لطريقة تصوير التعذيب في أدب السجون السوري وفي الخطاب الحقوقي التقليدي. ويظهر من خلال أعمال، كقصائد الشاعر بيرقدار والروائية عبد الرحمن، أنّ تجربة التعذيب تتجلّى في النصوص الأدبية بطرائق تتخطى ما توفره تقارير حقوق الإنسان، سواء من حيث العمق الإنساني أو الأثر السردي. ويعتمد الفصل على هذه الأعمال الأدبية ليبحث في إمكانيات تمثيل التعذيب بصورة تتسم بالحميمية السردية، وإعادة تأكيد مركزية صوت المعتقل بوصفه ذاتًا ناطقة، لا مجرد موضوع حقوقي أو رقم في وثيقة، بل بوصفه كيانًا حيًّا يتحدث عن ألمه ويعيد بناء صورته من رماد القهر.
ويتناول الفصل الرابع تمثيل الزمان والمكان في أدب السجون السوري وتقارير حقوق الإنسان، مشيرًا إلى كيفية معالجة هذا الموضوع في أعمال مثل خمس دقائق وحسب ومن تدمر إلى هارفارد. وينطلق من مناقشة ادعاء ياسين الحاج صالح أنّ السجن "نمط من أنماط الحياة" لآلاف السوريين، ليحلل كيفية تمثيل الزمان والمكان، مستندًا إلى الدراسات الحديثة في جغرافيا السجون، مثل أعمال دومينيك مويران ومايكل فيلدر. ويستعرض الفصل أعمالًا أدبية أخرى مثل مذكرات هبة الدباغ خمس دقائق وحسب، ومجموعة بيرقدار الشعرية حمامة مطلقة الجناحين، ليبيّن أنّ أدب السجون السوري يعيد إنتاج الجغرافيا العاطفية التي يعيشها المعتقلون من خلال تجربتهم الحقيقية.
أما الفصل الخامس فيخصص سجن تدمر موقعًا رمزيًّا للقسوة، ويحلل اللجوء إلى السريالية في بعض الأعمال الأدبية، معتبرًا أن هذه السريالية هي شكل من أشكال المقاومة لمحاولة محو ذاكرة العنف التي تعرّض لها المعتقلون في هذا السجن. من خلال أعمال مثل رواية القوقعة، يرى الفصل أن الكتابات عن سجن تدمر تنتج أشكالًا من المراقبة تكذّب الرواية الرسمية التي تنكر ارتكاب الدولة انتهاكات حقوق الإنسان عقودًا. كما تفقد اللغة قدرتها على التعبير عن التجربة القاسية، فيلجأ المؤلفون إلى النزعة السريالية لتمثيل أشكال القسوة والمعاناة الإنسانية في السجن.
ويتناول الفصل السادس الكتابات التي تمزج السرد الذاتي بالتخييل ما بعد الحداثي، متأثرةً بالمنفى، ليجعل أدب السجون امتدادًا لكتابة المنفى والمقاومة المزدوجة، من خلال التحليل العلمي لمؤلفات ما بعد الحداثة التي تبتعد عن تقنيات السرد التقليدية لكتّاب، مثل باتريسيا واو ومارك كوري وآخرين. ويناقش انتشار الميول الذاتية والخيالية، حيث يعكس هذا التوجه تساؤلًا نقديًّا عن قدرة السرد على التعبير عن تجربة السجن بشفافية، على النقيض من تقارير حقوق الإنسان. كما يرتبط هذا النوع من السرد بحالات النفي والإبعاد التي عاناها المعارضون السياسيون قبل ثورة 2011 وبعدها. وهكذا، يوضح الفصل أن بعض مؤلفات أدب السجون تتماهى مع الكتابة عن المنفى، معتبرةً إياها جزءًا من تجربة المقاومة المزدوجة.
الحق في الصورة: السرد البصري بوصفه مقاومة
بدلًا من خاتمة تقليدية، يختم الكتاب بتأمّل دور الإنتاج البصري في توثيق الاعتقال والثورة، من خلال أعمال "أبو نضارة" وفيلم "سُلَيمى"، وغير ذلك. تأسّست مجموعة "أبو نضارة" قبيل الثورة، وقدّمت نفسها من خلال ما سمّته "سينما الطوارئ"، وسعت إلى اختراق ضجيج الإعلام بألسنة الضحايا الحقيقيين. وتطرح المجموعة مفهوم "الحق في الصورة" حقًّا إنسانيًّا، وترفض التمثيلات النمطية للضحايا، ساعيةً إلى تقديم سرديات تحافظ على كرامة الإنسان وتمنح المعتقَل حق التعبير عن ذاته، لا أن يُختزل في صورة مذلّة ومهينة.
ويتناول الكتاب أعمال محمد ملص أيضًا، مثل "سلّم إلى دمشق" و"باب المقام"، التي تجسّد ثنائية الاعتقال والثورة، وتربط بين قمع الماضي وجراح الحاضر. وكذلك فيلم "المريض السوري"، الذي نتابع فيه قصة طبيب فقد مريضه المعتقل، ليُعتقل هو لاحقًا. أما "المعتقل غير موجود" فيحكي عن أمّ تبحث عن ابنها المفقود. ويعرض فيلم المجموعة الطويل "سجن صيدنايا ... يرويه السوري الذي أراد الثورة"، شهادات حيّة قدّمها معتقلون سابقون.
إنّ هذه الأعمال كلها تعيد التفكير في حقوق الإنسان مفهومًا مرنًا، وتقدم السرد البصري وسيلةَ مقاومة تُكمل الأدب، وتمنح الصوت لأولئك الذين صودرت ذاكرتهم.
يمثّل كتاب أدب السجون السوري: بويطيقا حقوق الإنسان إضافةً نوعية إلى رصيد المكتبة العربية، لما ينطوي عليه من تداخلٍ عميق بين الأدب وحقوق الإنسان، وبين التجربة الفردية والهمّ الجمعي؛ إذ إنه لا يكتفي بمجرّد توثيق معاناة المعتقلين السوريين بل يسمو بهذه المعاناة إلى مقام الكتابة الأخلاقية والجمالية، ويمنحها بعدًا إنسانيًا عصيًّا على المحو، ونافذًا إلى الوجدان. إنه يكشف عن قدرة الكلمة والصورة على مواجهة الاستبداد، ويطرح أفقًا جديدًا لتأمّل مفهومَي العدالة والكرامة، مؤسّسًا لوعي أدبيّ لا يفصل بين الجمال والدلالة، ولا بين الفن والحقيقة. إنه كتاب لا يُقرأ بعين العقل فقط، بل يُنصت إليه بوصفه شهادةً ناطقة بالمقاومة، وصوتًا حيًّا للمنسيّين أيضًا.
ولا يقتصر هذا الأدب على الرواية والمذكّرات بل يمتدّ ليشمل أجناسًا أدبية أخرى، كالقصة القصيرة والشعر والمسرح أيضًا؛ ما يجعل تعدّده الفنّي يُغني مضمونه، ويمنح قضاياه تراكمًا تعبيريًّا متجدّدًا.