صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الحركة الإصلاحية عند العلويين من خلال قراءة تراجم شيوخهم في القرن التاسع عشر: مقاربة بروسبوغرافية، من تأليف إياس أحمد حسن. يقع الكتاب في 264 صفحة، شاملًا ملخّصًا تنفيذيًّا وتمهيدًا وتقديمًا وتراجم وخمسة فصول وخاتمة، إضافة إلى ملحق وثائق وصور ومراجع وفهرس عامّ.
يتناول الكتاب ملامح الإصلاح والنهضة في صفوف شيوخ الطائفة العلوية خلال القرن التاسع عشر، مركّزًا على دورهم في تجاوز العزلة والتهميش عبر الانفتاح على المذاهب الإسلامية الأخرى، والالتزام بالأركان الدينية، ونبذ الخرافات. ويبرز إيمانهم بالعلوم الحديثة، وجهودهم في نشر التعليم وفتح المدارس، ومساهمتهم في نهضة لغوية وأدبية. ويكشف كيف أدّت مواقفهم الإصلاحية إلى ترسيخ الانتماء الإسلامي والوطني والقومي؛ ما مهد لاندماج أبنائهم في الحياة المدينية خلال القرن العشرين، وانخراطهم في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية. إضافة إلى الحراك الفكري المبكّر في جبال الساحل السوري، تفاعلًا مع حملة إبراهيم باشا وانتشار الحداثة، بما في ذلك المطبوعات والتعليم.
ويستند الكتاب إلى مجموعة من المخطوطات النادرة، أبرزها تذكرة الأفكار للشيخ علي حسن القاضي (1879)، ومؤلفات الشيخ يوسف علي الخطيب، وآل حرفوش، وغيرها، لرصد معالم الإصلاح المبكر الذي تجلّى في ثلاثة ملامح:
- الشكّ في مقاربة تاريخ تأسيس الطائفة، خصوصًا في سيرة الأمير المكزون السنجاري.
- الوعي التاريخي في حفظ تراجم الشيوخ وتوثيقها.
- الانفتاح على الشعائر الإسلامية، كأداء الحج.
القيادة الدينية والاجتماعية ومناهضة السلطة
شغلَ الشيوخ موقع القيادة في الشؤون الدنيوية والدينية معًا، وكان بيت الشيخ بمنزلة مركز معرفي واجتماعي. واتّسم الشيوخ بالزهد والكرم، وبدورهم في نصرة الضعفاء، وتميّزوا بالمقاطعة الرمزية للحكام ورفاهية السلطة، في رفض ضمني للهيمنة والتسلّط.
وعلى المستوى الاجتماعي، سعت الحركة الإصلاحية لمحاربة الخرافات، والدعوة إلى الكسب الشريف بالعمل اليدوي، والاهتمام بحقوق المرأة. وقد برز الشيخ سليمان الأحمد في نقده العلني للسحر والتنجيم، ودعا الإصلاحيون إلى الاستناد إلى العلوم الحديثة، ودوّنوا مؤلفات تعزّز قيم الوحدة والتسامح. وقد أصرّ شيوخ الطائفة على العمل اليدوي الشريف، ورفضوا بشدّة التسوّل الديني باسم الزكاة، معتبرين الكسب باليد شرفًا لا يُدانيه جاه. أما في شأن المرأة، فقد بدأت مطالبات بتقليل المهور، وظهرت بوادر تشجّع على تعليمها ومشاركتها العامة.
التعليم والنهضة الأدبية: من العلوم الشرعية إلى المعرفة الحديثة
شهد الحقل التعليمي نهوضًا أهليًّا ملحوظًا، تجلّى في تأسيس مدارس مثل مدرسة آل يونس، حيث اعتمد التعليم المجاني، مقابل التعليم المأجور في المدن الكبرى. ومع توسّع نشاط المدارس التبشيرية، دخلت اللغتان التركية والفرنسية إلى المناهج، وبدأ الانتقال التدرّجي من العلوم الشرعية إلى العلوم الدقيقة والتجريبية.
أما النهضة اللغوية والأدبية فقد انطلقت من الجنوب، بتأثير لبناني واضح، وساهمت المطبوعات الحديثة في قلب العلاقة التقليدية بين الشيخ والتلميذ، وظهرت شروح نقدية ومؤلفات لغوية جديدة، من أبرزها جهود الشيخين سليمان الأحمد وإبراهيم عبد اللطيف. وقد دفعت هذه النهضة الفكرية في اتجاه تقبّل النسبية المعرفية، والاعتراف بإمكانية الخطأ ومراجعته؛ ما أضفى حيوية نقدية على المشهد الفكري.
وأما الإصلاح الديني والهويّاتي، فقد اقترن بالتحرر من العصبيات العشائرية، والتمسّك بالهوية الإسلامية والعروبية، خصوصًا في مواجهة مشاريع التفريق الاستعمارية التي تبنّاها الفرنسيون. وبرز الشيخ صالح العلي مثالًا حيًّا في مقاومة الاستعمار، في حين أصرّ شيوخ الطائفة على التمسّك بالإسلام والقرآن، ورفضوا تصنيف العلويين طائفةً دينية مستقلّة. وقد تفرّق أبناء النخبة في توجهاتهم: فأبناء الشيوخ انخرطوا في الأحزاب الأيديولوجية كالبعث والشيوعي والقومي؛ وأبناء الزعماء اختاروا الانضمام إلى الأحزاب الوطنية؛ في حين انجذب أبناء "المقدمين" إلى المؤسسة العسكرية، وهو الأمر الذي أدّى لاحقًا إلى ولادة دولة الحزب الواحد وسيادة منطق الاستبداد.
المرجعية الفكرية والمنهجية: من جمال الدين الأفغاني إلى السيرة الجماعية
يبيّن الكتاب أنّ الحركة الإصلاحية العلوية تتقاطع في مبادئها الأساسية مع سائر حركات الإصلاح الإسلامي التي دعت إلى الانفتاح على الحداثة، ونبذ التعصّب، والسعي للتقريب بين المذاهب، لكنها - شأنها شأن غيرها - تأثرت بتقلّبات السياسة وظروف العصر.
وفي هذا السياق الرمزي، أصدر عبد الحميد عبد الوهاب الحاج معلّا كتابه في سبيل المجد في عام 1934 في الأرجنتين، مزيَّنًا بصور أعلام النهضة الإسلامية، وفي مقدّمتهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، من دون مناسبة مباشرة، بل في إشارة دلالية تؤكّد انتماءه وتيّار شيوخ العلويين الإصلاحيين إلى المشروع الفكري الإسلامي الحديث، كما تبيّن في سيرة الشيخ سليمان الأحمد. وقد تجلّت ملامح مشروع محمد عبده الإصلاحي في ثلاث ركائز: تحرير الفكر من التقليد وجعل الدين صديقًا للعلم، وإصلاح اللغة العربية وأسلوب الكتابة، وتمييز حقوق الدولة من حقوق الشعب.
وتبنّى عدد من شيوخ العلويين هذه المبادئ، فدعوا إلى إحياء الشعائر الإسلامية والتخلّص من البدع، والتقريب بين المذاهب، والتوفيق بين الدين والعلم، والعناية بالشعر واللغة، وتأسيس المدارس، والدعوة إلى العلوم الحديثة.
وشملت الحركة الإصلاحية كذلك أبعادًا اجتماعية متعددة؛ منها: نشر قيم التعاون، ونبذ التسلط، ومحاربة الخرافات بالعلم، وتثمين العمل اليدوي، وصولًا إلى الاهتمام المتنامي بحقوق المرأة في الزواج والمهر والملكية والتعلّم والمشاركة العامة.
تُصنّف هذه الحركة ضمن "البردايم الإصلاحي" السائد في القرن التاسع عشر، حيث يمكن التمييز بين نوعين من الحركات: حركات إصلاحية "أطرافية" نشأت في الهند والجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر، ذات طابع أصولي منغلق على التنوير الأوروبي؛ وحركات مدينية ظهرت في مصر والشام خلال القرن التاسع عشر، وتميّزت بعقلانيتها وانفتاحها على العلم، ودعوتها إلى التقريب المذهبي.
وفي هذا السياق، تُدرج الحركة العلوية ضمن التيار الشيعي الإصلاحي "الريفي الأقلوي"، المشابه لحركة جبل عامل، مع فارق مهمّ يتمثّل في طابعها الباطني وغياب مؤسسة دينية مرجعية.
المنهج البروسُبوغرافي لكشف ملامح الحركة الإصلاحية العلوية
اعتمد الكتاب المنهجَ البروسُبوغرافي (السيرة الجماعية) لكشف ملامح هذه الحركة، وانتهى إلى أن شيوخ العلويين شكّلوا مرجعية غير رسمية ذات طابع مؤسسي، وأسقط المنهجُ الفكرةَ النمطية التي تصوّر الجماعات المنعزلة كتلًا متجانسة، مبيّنًا التباينات داخل الشريحة الواحدة، سواء بين الأجيال، أو الطبقات، أو التوجّهات الفكرية.
وقد استُخدم غياب المؤسسة الدينية المرجعية أداةَ تفسير لفهم سلوك الجماعة، لا حكمًا معياريًّا ضدها؛ فالمؤسسة، كأي ظاهرة اجتماعية، تؤدّي أدوارًا إيجابية كحماية الهوية، وأخرى سلبية كمقاومة التنوّع والتجديد الثقافي.
وعلى الرغم من أنها حركة ريفية، فقيرة، باطنية، منعزلة جغرافيًّا، متنازعة داخليًّا، وتفتقر إلى مرجعية دينية، فإنّ الحركة الإصلاحية العلوية في القرن التاسع عشر تقاطعت في رؤاها وممارساتها مع أبرز الحركات الإصلاحية الإسلامية السنّية والشيعية، وسعت لبناء مواطن فاعل، مندمج في الدولة، يحمل قيم التسامح، والانفتاح، والعدالة، والحداثة.