صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث The Last Ottoman Generation and the Making of the Modern Middle East، ضمن سلسلة ترجمان. وهو من تأليف مايكل بروفانس وترجمة أحمد سالم سالم، ويقع في 416 صفحة، ويتضمن، إضافة إلى مقدمة المؤلّف للطبعة العربية، مقدمةً وسبعة فصول، تنتهي الفصول الستة الأولى منها باستنتاجات، في حين يشكّل الفصل السابع خاتمة واستنتاجات نهائية، ويضمّ ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا وقائمة جداول وخرائط وصور.
يتناول الكتاب مرحلة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط أعقبت انهيار السلطنة العثمانية وظهور الكيانات العربية الحديثة تحت سيطرة الاستعمار البريطاني والفرنسي. ويحلّل الحركات السياسية الشعبية وتجربة الاستعمار المباشر، مبرزًا الترابط بين أواخر العهد العثماني وبدايات الحكم الاستعماري. ويبيّن كيفية تشكّل الهويات الوطنية، وتبلور بذور النزاعات التي ظل أثرها ممتدًا خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، مستعرضًا مسارات نخبة من العسكريين والمدنيين العثمانيين الذين أصبحوا فاعلين رئيسين في الحياة السياسية ما بعد السلطنة.
زيارة فيلهلم الثاني ورمزية صلاح الدين الأيوبي
يبدأ الكتاب بذكر زيارة القيصر الألماني فيلهلم الثاني إلى دمشق في عام 1898، وكيف ارتبطت في الذاكرة العامة بظلال صلاح الدين الأيوبي الذي مثّل في المخيال الأوروبي رمزًا للفروسية والوفاء بالعهد والانتصار على الصليبيين، في حين رآه أهل الشام تجسيدًا لسيادة النفس وكرامة الأرض. وقد نظر فيلهلم إلى دمشق بوصفها مدينة رومانية وإسلامية عريقة تتجاور فيها طبقات التاريخ من أعمدة وقناطر ومساجد وكنائس وأسواق، بينما نظر إليها أهلها باعتبارها مركزًا نابضًا لمستقبل الدولة العثمانية ووعدها بالتحديث والنهوض. تزيّنت الزيارة بالمواكب والاحتفالات، وقدّم القيصر هدية مميّزة هي إكليل برونزي مذهّب وُضع على ضريح صلاح الدين، في حين ردّ السلطان عبد الحميد الثاني بهدايا فاخرة أصبحت لاحقًا من أوائل مقتنيات متحف بيرغامون في برلين. لكنّ الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أطاحت الدولة العثمانية وأسقطت ملَكيات كبرى، وحوّلت دمشق إلى ساحة احتلال جديد. وبعد سقوطها زارها لورانس العرب، واستولى على إكليل صلاح الدين ونقله إلى "متحف الحرب الإمبراطوري" في لندن. ثم أعقب ذلك الغزو الفرنسي بقيادة الجنرال غورو في عام 1920، حيث وقف عند الضريح وخاطب صاحبه بعبارته الشهيرة: "قم يا صلاح الدين، لقد عدنا"، في إعلان رمزي عن وصل الماضي الصليبي بالحاضر الاستعماري.
من انهيار الإمبراطورية إلى خرائط الانتداب
يُبرز الكتاب أدوار فيلهلم ولورانس وغورو في صوغ تصوّرات إمبريالية رومانسية عن الشرق، ربطت الماضي الصليبي بالحاضر الاستعماري، ومدّت الخيال السياسي الأوروبي بأدوات التبرير، وأسّست لبنى سياسية وحدودية ما زالت تحكم المنطقة حتى اليوم. فقد بدت فرنسا وبريطانيا، ومعهما في ما بعد الولايات المتحدة الأميركية، عازمة على تفكيك العالم العثماني إلى دول قومية ضعيفة خاضعة لترتيبات القوة، بحيث تُصاغ السيادة وفقًا لمقاييس المصالح البحرية والتجارية والعسكرية. ويشير الكتاب إلى أنّ ثمّة عثمانيين كُثرًا رأوا في حكمهم، رغم عيوبه وتفاوتاته، أنه نظام أقرب إلى العدل والحداثة ممّا أعقبه من دول قومية مستحدثة، لكنّ أصواتهم أُسكتت تحت ضغط التأريخ الاستعماري والقومي الذي احتفى بميلاد الدول بدلًا من تدوين انهيار الإمبراطورية وفقدان يقين القرون. ومن ثم، لا يسرد الكتاب قصة ميلاد جديد، بل حكاية انهيار كارثي وضياع آمال، وكيف عايش الناس تلك الحقبة من حرب ومجاعة ومرض؛ إذ هلك ربع سكان بلاد الشام. وفي هذا الإطار، يحاول الكتاب إعادة تخيّل الشرق الأوسط في لحظة تحوّله من عالم عثماني عريق إلى واقع استعماري مفكّك أقل تفاؤلًا وأكثر مأساوية، حيث تُستعاد الرموز القديمة لتبرير الخرائط الجديدة، ويتقدّم الخيال على الحقائق في صوغ المصائر.
محاور الكتاب وبنيته
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العثمانية قد تبنّت مؤسسات حديثة على غرار المؤسسات الأوروبية، تمثلت في التجنيد الإلزامي، ونُظم الضرائب، والتعليم العمومي، والطقوس العامة التي تُبرز حضور الدولة في الحياة اليومية وتربط الأفراد بمرجعياتها. واستندت شرعيتها إلى الإسلام وصورة السلطان/ الخليفة، مع وعود بالعدالة والتمثيل شملت غير المسلمين أيضًا، وإن بقيت المساواة في الغالب نظرية تُنازعها العادات والتراتبيات. وفي المقابل، كانت استراتيجيات القوى العظمى، خصوصًا بريطانيا وفرنسا، منذ أزمات البلقان لتقسيم السلطنة، مُؤسَّسةً على ثنائية متعالية تُقابل بين العقلانية والتعصّب، والحداثة والتخلّف، والمسيحي والمسلم، الأمر الذي جعل تقسيم الشرق الأوسط مشروعًا "شرعيًا" لديها على خلاف ما حصل مع إمبراطوريات أوروبية أخرى مثل آل هابسبورغ.
ومن هذه الخلفية، يقدّم الكتاب ثلاثة محاور مترابطة؛ أولها إرث التحديث العثماني المشترك الذي كان أساسيًا في تشكيل المنطقة ومؤسساتها، وثانيها تجربة الاستعمار الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى بوصفها خبرة مشتركة ربطت فلسطين والعراق وسورية وتركيا وغيرها بأنماط حكم ووجوه مقاومة متقاربة، وثالثها نقد الرؤية القومية الضيّقة التي تحجب القواسم المشتركة وتضع الحواجز بين تجارب متشابهة في الجذور والنتائج. وتأتي بنية الكتاب منسجمة مع هذه المحاور؛ إذ يبدأ المؤلّف بدراسة البنى والتجارب العثمانية المتأخرة، خصوصًا دور المدرسة العسكرية في تكوين جيلٍ قاد لاحقًا حركات الدولة والقومية والثورات، ثم ينتقل إلى نظرية الاستعمار وممارساته بعد الحرب، وكيف جرى استئصال الدولة العثمانية من الذاكرة الأوروبية وتصوير المسلم العثماني بوصفه "غير أوروبي" يستحق الوصاية. وتتابع الفصول مغامرات الجيل العثماني الأخير في مرحلة ما بين الحربين، حين لم تكن الحدود والدول القومية ذات معنى حاسم، وكان الشرق الأوسط شبكةً من المدن والمناطق المتّصلة بالمؤسسات الحديثة. وبعد قرن كامل، ظلت آثار الاستعمار قائمة وسامّة. والمثال الصارخ على ذلك الأزمة السورية المعاصرة التي تُعدّ أخطر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تعود جذورها مباشرةً إلى تسوية ما بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم المنطقة بمنطق تمييزي يرى بعض الشعوب أَولى بالحياة والحرية من غيرها.
الإسكندرونة ولجنة بيل: تصدّع الانتدابين
في السياق العام لعامَي 1936 و1937، طغت وفاة رئيس وزراء العراق ياسين الهاشمي على المشهد في دمشق، لكنها سرعان ما تراجعت أمام أحداث أكبر، تمثلت في ثورة فلسطين الكبرى، ومعاهدات الاستقلال في سورية ولبنان، وأزمة لواء الإسكندرونة، وتقرير لجنة بيل في فلسطين. وكانت فرنسا وبريطانيا، ومعهما عصبة الأمم أيضًا، في مواجهة تناقضات نظام الانتداب، فانكشف عجزه وظهرت غاياته الاستعمارية على حقيقتها.
وفي الإسكندرونة، طالبت تركيا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك بضمّ السنجق بدعوى حماية الأتراك فيه، وفضّلت فرنسا، تحت ضغط الأزمة الأوروبية واقتراب الحرب العالمية الثانية، إرضاء تركيا على حساب وحدة سورية. فأقرّت عصبة الأمم نظامًا مشتركًا فرنسيًا – تركيًا مع انتخابات طائفية على غرار لبنان، أفضت إلى زيادة عدد المسجَّلين "أتراكًا" وفوزهم بالأغلبية. وفي عام 1939، جرى ضمّ المنطقة رسميًا إلى تركيا، مع تهجير آلاف اللاجئين، ومعظمهم من غير المسلمين. وفي هذا السياق، اعتمد مصطفى كمال خطابًا قوميًا – عرقيًا يؤكد "نقاء الأمة التركية" ويربطها بالحثّيين، في صدى لخطابات قومية أخرى عند الموارنة والصهاينة، مؤكّدًا أن القوة وحدها تُكسب الاحترام وتمنح الاعتراف.
وفي فلسطين، كشفت لجنة بيل أن التمرّد لم يكن ضدّ الصهيونية وحدها، بل ضدّ الانتداب البريطاني نفسه. وقدّمت اللجنة أول مقترح رسمي لتقسيم البلاد مع تبادل للسكان والأراضي، وعدّته الحل الوحيد الممكن. لكنّ العرب والصهاينة رفضوا الاقتراح، وإن اختلفت دوافعهم وحساباتهم. ومع استئناف التمرّد، عمدت بريطانيا إلى حملات اعتقال ونفي في حقّ القيادات العربية؛ فغادر أمين الحسيني إلى برلين، وزُجّ بجمال الحسيني في السجن. ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية، صدر "كتاب أبيض جديد" في عام 1939 محدِّدًا الهجرة اليهودية بخمسة وسبعين ألفًا خلال خمس سنوات، ومقيّدًا شراء اليهود للأراضي، واقترح إقامة دولة ثنائية القومية مدة عشر سنوات، ثم يعقبها الاستقلال. فعُدّ ذلك تخلّيًا عن وعد بلفور وخطوة يائسة لحماية الإمبراطورية واسترضاء العرب، بعد أن أظهرت الوقائع حدود القوة البريطانية في إدارة بلد يمور بالثورة.
يوضح الكتاب أن أزمة الإسكندرونة وتقرير لجنة بيل مثّلا علامتين واضحتين على تآكل الانتدابين الفرنسي والبريطاني في المشرق؛ فقد خسرت فرنسا أوراق قوتها حين اختارت استرضاء تركيا على حساب سورية، في حين اصطدمت بريطانيا بثورة فلسطينية كشفت حدود سلطتها واضطرّتها إلى مراجعة التزاماتها تجاه المشروع الصهيوني. وفي كلتا الحالتين، بدت أدوات الانتداب التقليدية - من ورقة الأقليات إلى إدارة الطوائف ولجان التحقيق - أنها انقلبت على أصحابها، ومهّدت لنهاية الاستعمار الأوروبي التقليدي في المنطقة.
أقنعة الانتداب وسقوط الشرعية
مع تعثّر المعاهدة الفرنسية – السورية، وأزمة الإسكندرونة، أصدرت فرنسا عفوًا عامًا عن منفيّي الثورة السورية الكبرى (1925–1927)، كان أبرزهم سلطان الأطرش وشكيب أرسلان وعبد الرحمن الشهبندر، مع استثناء فوزي القاوقجي. واستُقبل العائدون بحفاوة شعبية، لكنهم سرعان ما دخلوا في معارضة علنية لحكومة الكتلة الوطنية، منتقدين إخفاقاتها؛ إذ تبنّى الشهبندر خطًّا علمانيًا ليبراليًا، في حين ركّز أرسلان على الوحدة الإسلامية ودان سياسات مصطفى كمال. وفي عام 1940، اغتيل الشهبندر في دمشق، واتُّهم جميل مردم بك بالتواطؤ في ذلك. وبحلول عام 1939 الذي شهد تراجع فاعلية عصبة الأمم مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أقرّ اجتماع لجنة الانتداب في جنيف عمليًا فشل المشروع الاستعماري، وتراجعت بريطانيا عن وعد بلفور عبر "الكتاب الأبيض" المذكور، وتخلّت فرنسا عن معاهداتها مع سورية ولبنان وتنازلت عن لواء الإسكندرونة لتركيا في خرق صريح لصكّ الانتداب. وفي تلك المرحلة، انكشف زيف الانتدابات التي تحوّلت من شعارات حماية الأقليات والوعود بالاستقلال إلى صفقات على الأرض والناس، فانهارت شرعيتها تمامًا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
لم تنتهِ الانتدابات في أراضي السلطنة العثمانية السابقة نهاية دراماتيكية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، بل عادت جميعها إلى صورة الاستعمار العسكري الصريح، ثم انسحبت سلطات الانتداب تدرّجًا تحت وطأة ضعف الموارد وتكاليف الحرب، ولم يكن الاستقلال الممنوح للسكان استقلالًا فعليًا، بل اقتصر على الاسم. وقد أُسّست نُظم الانتداب على وعود شكلية وواجهات ليبرالية - دساتير ومجالس نيابية - لكنها صُمّمت لإرضاء المجتمع الدولي وتغطية الاستبداد العسكري، لا لتقديم عدالة ناجزة أو مشاركة شعبية حقيقية. وصار الاحتكام إلى العنف قاعدة لحفظ السلطة، واحتفظ المفوّض السامي بحقّ النقض على كلّ قرار، بما في ذلك ما يتصل بحقوق الملكية والحياة والحرية. وأجّجت سياسات الانتداب النزاعات الطائفية والسياسية، وكرّست اعتماد الفصائل المحلية على الدعم الخارجي، ما أدّى إلى استمرار الحروب الأهلية والنزاعات في دول مثل لبنان وفلسطين، وإضعاف الدولة المدنية في سورية والعراق، لتبقى هذه الدول مرهونة بمنظومات عسكرية وإدارية رسّخها الانتداب مع واجهات شكلية للديمقراطية.
وفي موازاة ذلك، أقصت السياسات الاستعمارية السكان عن تقرير مصائرهم، في حين تعزّز نفوذ الضباط العثمانيين السابقين داخل السياسة، فأدّوا دورًا سلطويًا بدلًا من الدور الديمقراطي أو الليبرالي الموعود. ومع ذلك، تُظهر الوقائع أنّ شعوبًا في المنطقة استطاعت، بالمصادفات أحيانًا وبالنضال غالبًا، أن تنتزع قدرًا من الحرية وتحقق استقلالًا نسبيًا مقارنةً بجيرانها. وفي سياق الحرب العالمية الثانية، شهد العراق وسورية ولبنان تدخّل القوات البريطانية والفرنسية، واستمرّ الارتباط الدولي بالسياسات الانتدابية، وتُروى قصصٌ شخصية مثل مأدبة السفير البريطاني كيناهان كورنواليس في بغداد ولقائه بعائلة ياسين الهاشمي، بما يعكس الروابط الطويلة والمعقّدة بين السياسات الاستعمارية والأُسر الحاكمة والنخب المحلية.
في الحصيلة، لا يقدّم الكتاب سردًا لولادة الدول فحسب، بل يضع القارئ أمام المشهد الكامل لانهيار الإمبراطورية العثمانية وتحوّل الشرق الأوسط إلى فضاء أعيد تشكيله بقوة السلاح والاتفاقات، ويُظهر كيف تفاعلت حداثة عثمانية جنينية مع عسكرة أوروبية متنامية واستعمار مباشر، ليُبنى شرق أوسط جديد على تقسيمات قسرية ومظالم متراكمة. وبهذا، لم يكن إرث الحرب العالمية الأولى ولادة دول قومية فحسب، بل تثبيتًا لصراعات وبنى تسلّطية أيضًا أثقلت الحاضر وحدّت من إمكان التعافي. وهكذا، يذكّرنا الكتاب بأنّ ما يبدو بدهيًا اليوم من حدود وولاءات ونزاعات إنما خرج من تلك اللحظة التي اقتسم فيها المنتصرون أرضًا وشعوبًا ورؤى، وأنّ تفكيك الحاضر يتطلّب إعادة النظر في تلك الصفقة الكبرى التي غيّرت مصائر الناس وملامح المدن وحدود الخرائط.