صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تعليم الفلسطينيين بين الاحتلال والمقاومة، وهو من تأليف محمد أحمد صيام، ضمن سلسلة إصدارات، في 216 صفحة. ويشمل هذا الكتاب ملخّصًا تنفيذيًّا، ومقدمة، وستّة فصول، وخاتمة، إضافة إلى جداول وأشكال وصور ومراجع وفهرس عامّ، ويقدّم رؤية متكاملة متعلقة باستهداف الاستعمار الإسرائيلي التعليمَ الفلسطينيَّ باعتباره أداةً محورية لاقتلاع الشعب من جذوره، عبر تدمير منظوماته القيمية والتربوية والفكرية. فمنذ عام 1967، اعتبر الاحتلال التعليمَ قضيةً أمنيّة استراتيجية، فركّز جهوده على تعطيل المؤسّسات التعليمية من مدارس وجامعات وكلّيات ورياض أطفال ومكتبات وبنية تحتية، وامتدّ الاستهداف إلى حرمان الأسرى الفلسطينيين في السجون من التعلّم، وصولًا إلى اغتيال العلماء الفلسطينيين لمنعهم من تنمية وعي شعبهم وترسيخ مطلب الحرّية بين أبنائه، مسلّطًا بذلك الضوء على التعليم بوصفه سلاحَ مقاومة وحصنًا للهوية الوطنية.
يتناول الكتاب علاقة الاحتلال الإسرائيلي بالتعليم الفلسطيني منذ الانتفاضة الأولى في عام 1987، مبرزًا كيفية تحوّل التعليم إلى ساحة صراع استراتيجي في معركة الوعي الوطني. فقد أدركت سلطات الاحتلال أن المدرسة الفلسطينية ليست فضاءً لتلقين المعرفة فحسب، بل هي أيضًا مؤسّسة قادرة على إنتاج هوية وطنية ووعي مقاوم يصعب إخضاعه. لذلك، لجأت إلى سياسات ممنهجة لتعطيل التعليم؛ من إغلاقٍ للمدارس، إلى فرض مناهج بديلة، واعتبار أنّ التعليم في حدّ ذاته فعلٌ غير قانوني. وهذا الإدراك نابع من قناعة مفادها أن التعليم يولّد رأس مال ثقافيًّا يسند الصمود، بحسب باولو فريري وبيار بورديو وفرانز فانون، في حديثهم عن دور التعليم في التحرّر من الهيمنة.
الاستهداف الاستعماري للتعليم الفلسطيني
يُظهِر هذا الكتاب أنّ الاحتلال تعامل مع التعليم الفلسطيني بوصفه ملفًّا أمنيًّا، وليس بوصفه حقًّا إنسانيًّا، ففرض قيودًا مشدّدة على المؤسّسات التعليمية، وأغلق المدارس والجامعات، ودمّر الممتلكات، واعتقل الطلّاب والمعلّمين. وقد بلغ الاستهداف ذروته في غزة؛ إذ تعرّضت مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى "الأونروا" للقصف والإغلاق؛ ما حرم آلاف الطلّاب من حقّهم الأساسي في التعلم. وخلال الفترة 2015-2019، سُجّلت أكثر من أربعة آلاف حالة من حالات العنف الإسرائيلية تجاه الطلبة والمعلّمين، وهذا العدد يجعل فلسطين في صدارة الدول الأكثر استهدافًا في تعليمها. ثمّ إنّ هذا النمط يعكس رؤية استعمارية تنزع عن الفلسطينيين أهليتهم للتطوّر، وتسعى لتحويل التعليم إلى عملية عقيمة أو "تعليم عارٍ" منزوع الجدوى، بحسب وصف جورجيو أغامبين. ومع ذلك، شكّل الاستهداف دافعًا إضافيًّا لتعزيز التمسّك بالتعليم بوصفه وسيلة للمقاومة.
التعليم باعتباره ساحة مقاومة وصمود
إزاء القمع، ابتكر الفلسطينيون وسائل بديلة لضمان استمرارية التعليم، مثل تنظيم الصفوف في البيوت والمساجد والكنائس؛ ما جعل التعليم ذاته فعلًا مقاومًا. وقد أنتجت تجربهم التعليمية شخصيات سياسية وثقافية بارزة (ياسر عرفات، ومحمود عباس، وأحمد ياسين وجورج حبش ... إلخ)، لتأكيد أن المدرسة الفلسطينية كانت "مصنعًا" للنخب الوطنية. وفي السجون أيضًا، حاول الاحتلال حرمان الأسرى من التعليم عبر تشريع "قانون شاليط" في عام 2011، لكنهم خاضوا معارك إضراب وابتكروا نظامًا داخليًّا للتدريس وتهريب المواد التعليمية، فحصل عدد كثير منهم على شهادات جامعية عليا. وهكذا، تحوّل التعليم داخل السجون إلى نموذج بليغ دالّ على أن المعرفة فعلُ مقاومةٍ يوازي الفعل النضالي. وتُبيّن هذه التجربة أن الفلسطيني لا يرى التعليم ترفًا، بل ميدانًا للاشتباك مع المحتلّ ومجالًا لحفظ الهوية ومواجهة محاولات المحو.
سياسات الأسرلة في القدس
يبيّن هذا الكتاب أنّ السياسات الإسرائيلية اتخذت في القدس طابعًا أكثر عمقًا؛ فهي قد فرضت المناهج الإسرائيلية من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية، وروّجت لمدارسها بوصفها الأكثر تطوّرًا، في مقابل تضييق متعمّد على مدارس الأوقاف والأونروا والمدارس الفلسطينية الخاصة. وخلال الأعوام الأخيرة، انتقل آلاف الطلّاب المقدسيين إلى المدارس الإسرائيلية بسبب الضغوط الاقتصادية والسياسية، وهو ما عكس خطورة مشروع "أسرلة التعليم" وتأثيره الثقافي والوطني فيهم. وأطلقت إسرائيل خطة خمسية، في الفترة 2018-2022، تهدف إلى أسرلة 90 في المئة من التعليم في القدس، وقد تضمّنت إغلاق مدارس فلسطينية وافتتاح مدارس ورياض أطفال تابعة للبلدية، إلى جانب إنشاء مراكز جماهيرية للتطبيع ونشر الشرطة المجتمعية. وفي مقابل ذلك، واجه الفلسطينيون هذه السياسات من خلال التمسّك بمؤسساتهم التعليمية ودعم المعلمين والطلّاب، وإعادة إعمار المدارس المهدّمة، والتصدي قانونيًّا وميدانيًّا لسياسات الاحتلال. ورغم التحديات، فإنّ التعليم في القدس لا يزال مجالًا لمواجهة يومية تعكس إصرار الفلسطينيين على حماية وعيهم وهويتهم.
نحو مشروع تعليمي تحرّري
يرى مؤلّف هذا الكتاب أنّ التعليم الفلسطيني ظل عصيًّا على المشروع الاستعماري، وعلى محاولاته توظيفه إيّاه، وأنه ظلّ – في مقابل ذلك - منبعًا لإنتاج الرفض والمقاومة. لهذا السبب، عَدّه الاحتلال تهديدًا استراتيجيًّا من الدرجة الأولى، واستهدفه عبر الهجمات الميدانية والقيود القانونية واغتيال العلماء الفلسطينيين والعرب، خصوصًا في المجالات العلمية والتطبيقية، لإجهاض أيّ مشروع نهضوي قد يشكل خطرًا على تفوّقه. ولا تقتصر خسارة هؤلاء العلماء على الجانب الفردي، بل إنها تترك فراغًا يصعب مَلؤُه لدى المقاومة الوطنية. وفي مواجهة ذلك، يشدّد المؤلف على ضرورة تعزيز حماية العلماء وتوريث معارفهم، وتطوير رؤية قيادية تحوّل التعليم إلى أداة فعلية للتحرّر الوطني.
إقليميًّا ودوليًّا، تزداد أهمية التعليم في سياقات فشل المفاوضات، وصعود اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وانشغال الدول العربية بأزماتها الداخلية؛ ما يجعل الفلسطينيين أكثر اعتمادًا على أنفسهم. لذا، يصبح التعليم ضرورة استراتيجية لإعداد أجيال مثقّفة قادرة على أن تحمل مشروع المقاومة في أبعاده السياسية والثقافية والعلمية. ومع أن الحل النهائي يكمن في زوال الاحتلال، فإن إدارة الصراع تفرض على الفلسطينيين تعزيز استثماراتهم في التعليم باعتباره خطّ الدفاع الأول في وجه المشروع الاستعماري.
يخلص كتاب تعليم الفلسطينيين بين الاحتلال والمقاومة إلى أن الاحتلال مارسَ منذ عام 1967 سياسات منظمة لقمع التعليم الفلسطيني وتجريده من دوره التحرّري، لكنه لم ينجح في تطويعه أو إخضاعه. فقد قاوم الفلسطينيون هذه السياسات بصبرٍ وصمودٍ، وأعادوا بناء المدارس والجامعات بعد الحروب، ووفّروا التعليم للأسرى، وأنتجوا نخبًا مثقّفة داخل فلسطين وخارجها. ويقترح الكتاب خطوات عملية، من أبرزها إنهاء الانقسام الفلسطيني وتوحيد الجهود، وتطوير البحث العلمي في التعليم واستهدافه، ودعم تعليم الأسرى باستخدام التكنولوجيا، وتحصين المؤسسات التعليمية في مواجهة الإغلاقات والهجمات. وهكذا، فإنّ التعليم الفلسطيني ليس وسيلة للمعرفة فحسب، بل هو أيضًا ممارسة تحرّرية في صميم المشروع الوطني، وساحة نضال مفتوحة ضد محاولات الطمس والأسرلة.