صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الوعي الأخلاقي الشقي: تنازع الإنسي والديني في تراث الإسلام، من تأليف شفيق محمد اكّريكّر، في 424 صفحة. يشمل الكتاب ملخصًا تنفيذيًّا، ومقدمة، وسبعة فصول موزّعة على ثلاثة أقسام، واستنتاجات عامّة، إضافة إلى مراجع وفهرس عامّ. ويتناول تداخل البُعدين الأخلاقي والديني في التراث الإسلامي، مركّزًا على الصراع الداخلي للنفس المسلمة بين الكونية (القيم الأخلاقية العابرة للخصوصيات المِليّة) والأتونوميا (قدرة الإنسان على التشريع الذاتي والاهتداء بالعقل). وقد أفرز هذا الصراع وعيًا أخلاقيًّا شقيًّا حائرًا بين الانقياد للأمر الديني والالتزام بالخصوصية المليّة من جهة، والاهتداء بالعقل مع تبنّي الكونية الإنسانية من جهة أخرى. ويُقسّم الكتاب دراسة هذا الوعي بحسب ثلاثة أقسام متمثّلة في تمهيد لتكوينه منذ الدعوة المحمدية حتى سيطرة الشرعانية، وعقدة من خلال تجليات الوعي في نماذج عبد الله بن المقفع وابن أبي الدنيا وأبي حامد الغزالي، وحلّ تاريخي يجسّده المعتزلة ومحمد بن زكريا الرازي.
الطهطاوي وبداية السؤال الأخلاقي
أمضى رفاعة الطهطاوي في باريس خمس سنوات (1826-1831)، فاطّلع على جوانب متعددة من الحضارة الفرنسية ولاحظ اعتناء الفرنسيين بما سمّاه "المروءة الإنسانية"، معتبرًا أنّ شكر المنعِم واجب تتّفق عليه الأمم كافّة. وقد دفعه هذا التقدير الأخلاقي إلى استحضار أبيات شعرية تذكّر بوجوب الفضيلة وشكر النِّعم حتى في حال افتراض انعدام البعث والثواب والعقاب؛ ما جعله يطرح سؤالًا جوهريًّا: هل أنّ للأخلاق أساسًا مستقلًّا في العقل الإنساني بمعزل عن الدين؟ هكذا برزت عنده العلاقة الملتبسة بين الأخلاقي والديني؛ إذ لمّح من جهة إلى كونية المبادئ الأخلاقية المشتركة بين الأمم، وأشار من جهة أخرى إلى استقلالية الفاعل القادر على التشريع لنفسه بلا خوفٍ أو طمعٍ. وتُشكّل هذه الإشارة مدخلًا إلى دراسة أوسع للوعي الأخلاقي في الفكر الإسلامي الكلاسيكي؛ إذ ظهرت محاولات لبعض العقلانيين والتقليديين في التفريق بين الأخلاقي والديني، لكنها اصطدمت دائمًا بهيمنة الديني على مصادر الإلزام والمعايير، وهذا ما جعل العلاقة بين الدين والسياسة محكومة بنموذج الطاعة والانقياد، وأنتج "الوعي الأخلاقي الشقي"، ذلك الوعي القَلِق العاجز عن الفصل بين الشرعي والديني، على الرغم من ومضات أشارت إلى إمكانية هذا التمايز.
الأخلاق والدين بين الكونية والخصوصية
يُظهر هذا الكتاب أنّ الأخلاق في جوهرها تقوم على قيم إنسانية مثل العقل والفضيلة والسعادة والمنفعة، في حين يستند الدين إلى أوامر وتشريعات إلهية تجعل الأخلاقي جزءًا من منظومة الحياة الدينية. لذلك، لا يتطابق الأخلاقي مع الديني؛ فـ "الأخلاقي" يطلب الكمال الإنساني والفضيلة، بينما يطلب "الديني" امتثال أوامر الله وخشيته ويمنح الخير المرتبط بالعبادات والاعتقاد بالغيب الأولويةَ. هكذا تمايز الإثم الأخلاقي عن الإثم الديني، كما هو الشأن في تحريم بعض الأطعمة أو إباحة العبودية. إنّ الفضيلة الأخلاقية في التصور الديني ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لعبادة الله تدخل في نظرية الآمرية الإلهية وتجعل الطاعة قيمة عليا، بخلاف الفلسفة التي ربطت الفضيلة بالعقل والاستقلالية الذاتية. وهي كذلك جماعية مليّة تُمارَس داخل الأمة المتميزة من غيرها، وهو الأمر الذي يضعف طابعها الكوني، وإن أشار الإسلام في مواضع إلى العالمية من خلال مفهوم الرحمة للعالمين. هذا التوتر بين الخصوصية المليّة والكونية الإنسانية دفع الفقهاء إلى طرح مسألة حُكم الأفعال قبل الشرع لاختبار إمكان وجود أخلاق إنسانية مشتركة، لكن الموقف ظل متأرجحًا بين الاعتراف بالحدس الأخلاقي العام والتمسك بامتياز الوحي. ومع الحداثة، بلوَر كانط الفصل بين الأخلاقي والديني من خلال مبدأَي الاستقلالية والكونية؛ فالأخلاق عقلانية وملزمة لكل إنسان، في حين تظل الشرائع الدينية محلية وتاريخية. غير أن هذا الفصل كان عسيرًا في السياق الإسلامي بسبب ارتباط الأخلاق بالفقه واللاهوت والتصوّف؛ ما جعلها ميدانًا مشتركًا بين الفلاسفة ورجال الدين، وأبقى وعي المسلم متجاذبًا بين قيم الفضيلة الإنسانية وقيم التقوى الدينية.
دراسات في التوتر الأخلاقي والديني
تناولت دراسات عدة هذا التوتّر، ومن أبرزها مؤلّفات ماجد فخري الذي صنّف المفكرين إلى ذوي أخلاقيات سمعية تعتمد النص وآخرين ذوي أخلاقيات فلسفية تستند إلى البرهان اليوناني، مبرزًا درجات خضوعهم للنص، وإنْ "ظلم" بعض الأعلام على غرار الحسن البصري وابن أبي الدنيا مثلًا. أما جورج حوراني، فركّز على استقلالية العقل في الحكم الأخلاقي، عارضًا الصراع بين المعتزلة العقلانيين والأشاعرة الإرادويين، وإنْ حصر اهتمامه في الأخلاقيات الكلامية التحليلية وأغفل آدابًا وفلسفات أخرى. ثم جاء محمد عابد الجابري فاستقصى قطاع القيم في التراث العربي عبر تصنيف يقوم على القيم، لا على الأعلام، معتبرًا أن مدار الفكر الأخلاقي هو القيم ذاتها. وكشفت هذه الدراسات جميعها، على اختلاف مناهجها، عن حضور دائم للتوتر بين الديني والأخلاقي، وإن تفاوتت في مستوى التعمّق واتساع الرؤية.
أنظمة القيم وصراع الموروثات
يُبيّن هذا الكتاب أنّ الجابري قسّم العقل الأخلاقي العربي إلى خمسة أنظمة قيم: السعادة اليونانية، والطاعة الفارسية، والفناء الصوفي، والمروءة العربية، والمصلحة الإسلامية. ورأى أن هذه الموروثات تنافست في التأثير في الإسلام، معتبرًا تاريخ الأخلاق أشبه بصراع دارويني. لكنه قدّم خلاصات متحيّزة أو ناقصة؛ ففي الموروث اليوناني، أبرز النزعة الإنسانية وأغفل البعد الديني. وفي الموروث الفارسي، حصر القيمة في الطاعة متجاهلًا انفتاحه الثقافي. وفي الموروث العربي، أبرز المروءة بوصفها قيمة دنيوية قد تتعارض مع المثال الديني. وفي الموروث الصوفي، ركّز على الفناء وأغفل قيمًا فاعلة أخرى. أما في الموروث الإسلامي الخالص، فاعتبر المصلحة القيمة المركزية. ومع ذلك، بقيت العلاقة بين العقل والدين موضع صراع. فالمعتزلة رأوا أنّ العقل مكمّل للوحي، في حين جعله الأشاعرة تابعًا له. وفي هذا السياق، نشير أيضًا إلى أنّ الفارابي قدّمه عليه. وهكذا، ظل القول بعقلانية الأخلاق في الإسلام موضع إشكال.
الوعي الأخلاقي الشقي واستمرار الإشكالية
يناقش الكتاب مفهومَ "الوعي الأخلاقي الشقي" بوصفه تجاذبًا داخل الروح المسلمة بين قيم إنسانية دنيوية؛ مثل المروءة والسعادة والفضيلة، وقيم دينية محكومة بالتقوى والطاعة. وهذا التوتّر جعل الضمير المسلم في حالة انشطار دائم بين الانتماء إلى "القرية الدينية" والانفتاح على "الأفق الإنساني الكوني". ومنذ البدايات، ظل السؤال الأخلاقي مطروحًا: هل الحسن والقبح ذاتيان؟ أم هما شرعيان؟ وهل أنّ استقلال العقل أمرٌ ممكن؟ وقد توزّعت الإجابات بين استراتيجيات مختلفة: تمجيد العقل، وإحياء القيم العربية القديمة، واللجوء إلى الأدب واللذة والسعادة. غير أن هذا الوعي كثيرًا ما ظهر "نصف فكرة" أو "فكرة محجوبة"، ففضحها النقد أو التحفظ، وهو ما كشف عمق أزمة التوفيق بين الديني والإنساني في الأخلاق. وتواصل البحث في هذه الإشكالية مع المعتزلة الذين صاغوا لاهوتًا أخلاقيًّا مؤكِّدًا استقلاليةَ العقل، والرازي الذي جعل الأخلاق إتيقا إنسانية غايتها السعادة والتشبّه بالله. وقد بقيت النتيجة أن مفكّرين من عصور ومذاهب شتى، من بينهم أبو ذر الغفاري والغزالي وأحمد بن تيمية، اشتركوا في الانشغال بالأسئلة نفسها، متأرجحين بين مقتضيات الدين وآفاق الإنسان.
يؤكد كتاب الوعي الأخلاقي الشقي أن جوهر التوتر بين الأخلاقي والديني دار حول مبدأَي الكونية والاستقلالية الذاتية. فقد قيّد الدين الأخلاق بخصوصية المِلَّة، وأضعفت الطاعة حرية التشريع الذاتي، فنتج من ذلك وعيٌ أخلاقي شقيٌّ ميّز القرية الدينية من المشترك الإنساني، واختزل الأخلاق في التقوى والطاعة بدلًا من الانسجام الداخلي مع القانون الأخلاقي الكامن في الذات. ويطرح الكتاب راهنية هذه الأسئلة اليوم: كيف يقبل المسلم فضيلة الآخر ويقيم معه حوارًا أخلاقيًّا عالميًّا في قضايا الحرية والعدالة وحقوق الإنسان؟ وكيف يُبنى وعي أخلاقي حديث قائم على استقلالية الفرد؟ إن ثقافة الطاعة التي ارتبطت بالأخلاق والسياسة في التجربة الإسلامية ما زالت تفسّر تعثّر التجربة الديمقراطية، في حين أنّ جوهر مطالب الربيع العربي كانت في أصلها مطلبًا أخلاقيًّا هو الاستقلالية الذاتية. وبذلك، يتضح أنْ لَا فصل بين الأخلاق والسياسة؛ فمن دون استقلالية الفرد أخلاقيًّا لا يمكن أن تتحقق استقلالية الأمة سياسيًّا.