صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب هندسة "الهوية الوطنية"... سورية المستقبل، من تأليف محمود باكير، ويقع في 248 صفحة. ويشمل ملخّصًا تنفيذيًّا، ومقدّمة، وخمسة فصول، وخاتمة، إضافة إلى مراجع وفهرس عامّ. يبيّن الكتاب أن الأزمة الوطنية التي عاشتها سورية خلال العقد الأخير كشفت غياب مشروع لبناء المواطنة؛ ما أدى إلى تصحّر الهوية الوطنية نتيجة تقصير الدولة والأحزاب. وقد عالج المؤلف هذا المفهوم باستخدام أدوات علمية مثل "الطبولوجيا" لإبراز طابعه الفكري، إلى جانب توظيف ضوابط المصلحة الشرعية في الفقه الإسلامي القائمة على ترجيح خير الخيرين ودفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر.
الهوية الوطنية وبناء الدول
تُعتبر الهوية الوطنية دعامة أساسية في الدول، فهي شرط ضروري لتحقيق الحكم الرشيد، والعدالة الاجتماعية، وتعزيز الوعي بالذات، وتوحيد الجهود، والنهوض السياسي. غير أن طبيعتها المجرّدة تجعل أهميتها تتجلّى غالبًا عند غيابها أو اضطرابها، وهذا ما يظهر جليًّا في بعض الدول مثل لبنان والعراق واليمن والسودان وسورية وتركيا وماليزيا وإسبانيا وإيران.
ولفهم عمق أزمات الهوية الوطنية، يمكن النظر إلى تجربة الدول الإسكندنافية، أي النرويج والدنمارك والسويد وفنلندا، التي نجحت في بلورة هوية وطنية ناضجة أفضت إلى رخاء اقتصادي ومساواة اجتماعية ورفاهية الشعوب. وتعد الركيزة الأساسية في هذا النجاح "النموذج التعليمي الإسكندنافي"، الذي يرتكز على تعليم شامل لكل شرائح المجتمع، مع تعزيز قيم الانتماء الوطني والمسؤولية الاجتماعية، واحترام التنوع، وغرس الاعتزاز بالتراث والتاريخ والفولكلور. ويقوم هذا النموذج، وفق ما يوضّح الكاتب ديفيد بروكس، على مفهوم Bildung الألماني؛ أي تطوير شخصية الإنسان بأبعادها كاملة – العقلية والعاطفية والأخلاقية والمدنية – بدلًا من الاقتصار على المعلومات. ويهتم التعليم بتطوير "الإدراك" العقلي وفهم "العلاقات" بين الأفراد والمجتمع، بما يتيح للطلاب فهم الأنظمة المركّبة والمشاركة الفاعلة، مع احترام استقلالية التفكير الفردي.
وقد أظهرت التجربة الإسكندنافية أن فهم العلاقات بين مكوّنات المجتمع أهم من دراسة طبيعتها فقط، وهو ما يعزز بناء مجتمع مترابط. واستندت هذه الفكرة إلى مفاهيم فلسفية ورياضية، مثل "الغشطالت" (الصيغة الكلية)، التي تؤكد أن "الكل أكبر من مجموع أجزائه"، وأن التعدّد لا يعني التنوّع؛ ما أسس مفهوم "إدارة التنوّع" بوصفه أساسًا لتعزيز الهوية الوطنية في المجتمعات الحديثة.
وبهذا، يقوم بناء الهوية الوطنية على فهم العلاقات الإنسانية والمجتمعية، وتطبيق أدوات عقلية جديدة لدراسة هذه العلاقات، وهو ما تحقق في الدول الإسكندنافية عبر منظومتها التعليمية الفريدة.
العلاقة والإدراك وبناء الهوية الوطنية
يبيّن الكتاب أنّ أساس بناء الهوية الوطنية يكمن في امتزاج طريقة الإدراك وفهم العلاقات في أي منظومة تعليمية، وليس في النموذج الإسكندنافي فقط، فالمفهوم يتجسد في "العلاقات" بين أفراد المجتمع، ويشدّد على اشتراك كل أبناء الوطن في قيم الانتماء. إن سر النجاح الإسكندنافي يكمن في اكتساب هذه القيم تدريجيًا وعلى نحو غير محسوس؛ ما جعلها متينة وغير قابلة للتحدي.
وفي السياق السوري، يتطلب بناء هوية وطنية قوية جهودًا كبيرة وعقولًا منيرة، بعيدة عن الأيديولوجيا، وهو ما نفتقده غالبًا. ويؤدي غياب الهوية الوطنية أو هشاشتها إلى اضطرابات واسعة، كما تجلّى في الأزمة السورية خلال العقد الأخير، التي كشفت عن تصحّر أو أميّة وطنية. فمعظم الجهود خلال الأزمة ركزت على الأعراض، لا على مسبّباتها الجوهرية.
هوية دمشق القديمة والمجتمع
تبرز الهوية المجتمعية في دمشق القديمة كيف تعكس العلاقات الداخلية للبيت الدمشقي والمرأة الدمشقية وعيًا اجتماعيًّا وثقافيًّا عميقًا، حيث كان تركيز النساء والبيوت في دمشق القديمة على الداخل من حيث الفخامة والزخارف، بينما الخارج كان يظهر البساطة؛ ما ساهم في حفظ السلام الاجتماعي وتماسك المجتمع. كما أنّ العمارة والإنسانية مرتبطان ارتباطًا عضويًّا؛ فالعمارة تعكس الهوية والثقافة والوعي الاجتماعي.
والتركيز على "العلاقة" بدلًا من طبيعة العناصر يشبه مفهوم "البنية" في الرياضيات والفلسفة البنيوية، حيث العلاقات المتبادلة بين العناصر تحدّد خصائص المجموعة، لا طبيعة العناصر نفسها. ويُظهر مفهوم البنيوية، وفق ما يوضح سيمون بلاكبيرن، أن "ظواهر الحياة الإنسانية لا يمكن إدراكها إلا من خلال علاقاتها المتبادلة"، وهذه العلاقات تشكل البنية الأساسية للمجتمع. وأبرز دليل على ذلك هو الرفق بالحيوانات في دمشق القديمة، الذي يعكس القيم الإنسانية العميقة والوعي الاجتماعي الناضج باعتبارها جزءًا من الهوية المجتمعية.
النموذج الإسكندنافي و"التفكير الميكانيكي"
يعود نجاح النظام التعليمي الإسكندنافي إلى ابتعاده عن التفكير الميكانيكي الذي اعتمده بعض الفلاسفة في القرن الثامن عشر، حين حاولوا تفسير العقل والمجتمع بقوانين الحركة عند إسحاق نيوتن، معتقدين أن كل الظواهر الحية وغير الحية تخضع لقوانين صارمة. وقد عرقل هذا التعميم فهم الإنسان فترة طويلة، إلى أن أثبت كورت غودل أن عقل الإنسان أقلّ ميكانيكية مما كان يُظَنّ، بمبرهناته الشهيرة. استفادت المنظومة الإسكندنافية من هذا الإدراك؛ ما جعلها أكثر نجاحًا في بناء مفاهيم الهوية الوطنية، على عكس المقاربات العربية التقليدية التي تأثرت بالميكانيكية القديمة.
ويعتمد النموذج الإسكندنافي كذلك على مبدأ التناظر بين العلوم الطبيعية والاجتماعية؛ فقد أشار مفكرون مثل غوتفريد ليبنتز وكارل بوبر وبول ديراك إلى أن القواعد العلمية في الطبيعة يمكن أن توجه فهم الظواهر الاجتماعية بطريقة منهجية. ويضمنُ استخدامُ الرياضيات في دراسة الهوية الوطنية الموضوعيةَ، ويبعد عن الانحياز الأيديولوجي أو السياسي؛ إذ يركز على "الصورة المثلى" للظواهر بدلًا من تراكم الحقائق المصطنعة.
ويتبع هذا النهج "الهندسة الفكرية" للهوية الوطنية؛ أي تفكيكها وتحليلها وفق أدوات رياضية ومنطقية، ما يمنحها وضوحًا وموضوعية عالية، متسقًا مع قول ابن القيّم عن الحكمة: "قول ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي"، حيث تُعتبر الحكمة دليلًا على إتمام مشروع بناء الهوية الوطنية بعيدًا عن التأثيرات السياسية أو الأيديولوجية.
ويعالج المؤلِّف قضية الهوية الوطنية بوصفها ركيزة أساسية لوحدة الوطن ونهوضه السياسي والاجتماعي، مشيرًا إلى أن الحرب في سورية كشفت هشاشة هذا البعد نتيجة إهمال الدولة منذ نشأتها بعد اتفاقية سايكس – بيكو، وتفاقم الأمر في عهد حزب البعث، الذي رفع شعارات قومية صعبة التحقيق. ويطرح المؤلف مفهوم الهوية بمنهج جديد، قائم على أدوات معرفية ومنطقية مثل "الطبولوجيا"، لفهمها باعتبارها شبكة علاقات تربط الأفراد، مؤكّدًا أن بناء هوية وطنية فاعلة يتطلب منظومة تعليمية حديثة تعزز الانتماء والمسؤولية المشتركة، وتصحّح الأخطاء المفاهيمية السائدة.
ويخلص الكتاب إلى أن بناء الهوية الوطنية السورية يستلزم تجاوز الماضي وقطعًا مع ما قبله، مع دراسة مواقف الأحزاب، والبحث في علاقتها بالإسلام من منظور فقهي، حيث رجّح المؤلِّف - مستندًا إلى مقاصد الشريعة – تغليب المصلحة الوطنية عند التعارض مع الانتماء الديني، وأيّد الشيخ محمد الزحيلي هذا الرأي باعتباره اجتهادًا يراعي الشرع والواقع المعاصر. ويشير الكتاب إلى تأخّر الفكرين الإسلامي والعربي في تعريف مفهومَي الوطنية والمواطنة، خلافًا للقومية التي استحوذت على الاهتمام منذ القرن التاسع عشر.