صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ما بعد النظرية After Theory ضمن سلسلة ترجمان، من تأليف تيري إيغلتون وترجمة ثائر ديب، ويقع في 272 صفحة، شاملًا ملاحظة تمهيدية وثمانية فصول وتذييلًا، إضافة إلى ثبت مصطلحات ومراجع وفهرس عام.
يُعدّ كتاب ما بعد النظرية After Theory، الصادر باللغة الإنكليزية في عام 2003، للمفكّر والناقد الثقافي البريطاني تيري إيغلتون، من أبرز المساهمات النقدية التي تتناول وضع الفكر والنظرية الثقافية، بعد انحسار موجة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية. فهو يمثّل مراجعة شاملة لنحو ثلاثة أرباع القرن من التنظير في مجالات الفكر والثقافة والأدب والمجتمع، مع محاولة لإعادة طرح الأسئلة الأساسية عن جدوى النظرية، وحدودها، ومسؤولياتها في عالم معقّد ومتغيّر. ولا يطرح الكتاب بوصفه رفضًا للتنظير، بل باعتباره دعوةً إلى إعادة النظر في وظيفته، ومحتواه، وآفاقه المستقبلية.
من ازدهار النظرية الثقافية إلى خفوت بريقها
يبدأ إيغلتون بتحليل السياق التاريخي الذي ازدهرت فيه النظرية الثقافية في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث كانت لحظة تحوّل جذرية في الفكر الغربي. فقد شهدت تلك المرحلة صعود عدد من المفكرين البارزين، مثل ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجاك لاكان، ولوي ألتوسير، الذين أسهموا في زعزعة المفاهيم التقليدية للهوية، والحقيقة، والمعرفة، والأخلاق، مؤسسين بذلك لما يُعرف بـ "النظرية" أو "النظرية الكبرى" High Theory. وقد تمثّلت إنجازات هذا التيار في كشف البُنى الخفية للسلطة والهيمنة، وفي مقاربة الثقافة بوصفها ميدانًا للصراع الأيديولوجي، وليست مجرّد انعكاس سلبي للواقع.
مع ذلك، يلاحظ إيغلتون أنّ هذا الزخم الفكري سرعان ما فقد كثيرًا من تأثيره بحلول التسعينيات، حيث تراجع الاهتمام بالقضايا الكونية والجماعية، وبرز خطاب فردي يركّز على الهوية، والاختلاف، ونمط الحياة الخاص، على حساب القضايا السياسية، والاقتصادية، والأخلاقية. ويعبّر المؤلف عن استيائه مما يسميه "التمركز حول الذات" في النظرية المعاصرة، ويعتبر أن هذا الاتجاه أدّى إلى تهميش الموضوعات الكبرى التي ينبغي للنظرية أن تتعامل معها، مثل العدالة، والحقيقة، والمسؤولية، والحرية.
جاء انسحاب النظرية من ميدان الأخلاق والسياسة نتيجة هيمنة النسبوية الفكرية التي أفرزتها ما بعد الحداثة، والتي رفضت "السرديات الكبرى"، واعتبرت أنّ كل حقيقة هي مجرّد بناء اجتماعي أو لغوي. لكنّ هذا الرفض، بحسب إيغلتون، لم يؤدِّ إلى تحرّر فعلي، بل إلى فراغ مفهومي جعل النظرية عاجزة عن تقديم أدوات فعّالة لفهم العالم أو تغييره. ومن هنا تأتي دعوته إلى استعادة النقاش حول المفاهيم التي جرى تجاهلها، مثل "الخير"، و"الحق"، و"الواجب"، و"الطبيعة الإنسانية"، باعتبارها ضرورية لأي ممارسة فكرية جادة ترتبط بالواقع الإنساني.
العودة إلى الإرث الماركسي وإعادة البناء على المكتسبات
يشدد الكتاب، من ناحية أخرى، على ضرورة إعادة ربط النظرية بالسياقات المادية والاقتصادية. فبحسب رؤية المؤلف، لا يمكن فهم الثقافة بمعزل عن علاقات الإنتاج، والبنية الطبقية، والتفاوتات العالمية. وهو يستحضر في هذا السياق الإرث الماركسي الذي يرى أن الثقافة ليست مجموعة من الرموز والمعاني فحسب، بل هي أيضًا نتاج لشروط اجتماعية واقتصادية محددة. ويشدد على أن تجاهل هذه العوامل يجعل النظرية غير قادرة على تفسير الديناميات الحقيقية التي تدفع المجتمعات الحديثة وتصوغها.
لا يدعو المؤلف، في المقابل، إلى القطيعة مع ما قدّمته النظرية الحديثة، بل يرى ضرورة البناء على مكتسباتها مع الانفتاح على أسئلة جديدة تتجاوز النزعة التفكيكية والانشغال المفرط بالذات. ويطمح إلى إعادة توجيه النظرية نحو الانخراط في قضايا الواقع، لا بوصفها أداة تحليلية فحسب، بل باعتبارها وسيلة للمساهمة في التغيير الاجتماعي والسياسي.
في الختام، يشكّل كتاب ما بعد النظرية نداءً فكريًا لإحياء دور النظرية الثقافية، في زمن تتفاقم فيه الأزمات العالمية على مختلف المستويات. ويدعو إيغلتون إلى نظرية أكثر التزامًا، وأكثر جرأة، وأكثر اهتمامًا بالشأن الإنساني، ترى في الثقافة ميدانًا للصراع والمقاومة، وليس مجالًا للتأمّل المجرّد أو التحليل النصّي. وهو يسعى، من خلال ذلك، لاستعادة دور النظرية بصفتها قوة معرفية وأخلاقية، تساهم في فهم العالم وتغييره.