صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب لماذا يكذب السياسيون؟ حقيقةالكذب في السياسة الدولية Why Leaders Lie: The Truth about Lying inInternational Politics، ضمن سلسلة ترجمان، من تأليف جون ميرشايمر وترجمة غانم النجار، ويقع في 208 صفحات، شاملًا مقدّمتين للمترجم (2025) و(2016)، وتوطئةً ومقدّمةً وثمانية فصول، وفصلًا تاسعًا هو خاتمة، ومراجع، وفهرسًا عامًّا.
يُعدّ هذا الكتاب إسهامًا مهمًا واستفزازيًا في دراسة العلاقات الدولية؛ إذ يقدّم تفسيرًا واقعيًا لأحد أكثر الجوانب إثارة للجدل في السلوك السياسي، وهو استخدام السياسيين للكذب على نحو متعمّد. ويرى ميرشايمر أن النظام الدولي يقوم على مبدأ الفوضى؛ أي إنه لا توجد سلطة مركزية عليا تفرض القواعد أو تضمن الأمن بين الدول، وهذا الوضع يدفع كل دولة إلى الاعتماد على نفسها في سبيل البقاء.
تمييز الكذب من الخداع: الأبعاد الأخلاقية والسياسية
في ظل هذا الواقع غير المستقر، يلجأ السياسيون أحيانًا إلى الخداع والكذب باعتبارهما وسيلتين ضروريتين لحماية مصالح الدولة أو تعزيز مكانتها الاستراتيجية، لا بوصفهما سلوكًا أخلاقيًا منحرفًا، بل بوصفهما خيارًا عمليًا تمليه ظروف المنافسة والصراع على البقاء. وتتمثّل الفكرة المركزية في الكتاب في أن الكذب في السياسة الدولية ليس بالضرورة ناتجًا من فساد أخلاقي أو انعدام الضمير، بل هو سلوك عقلاني، وأحيانًا متوقّع، تفرضه طبيعة النظام الدولي نفسه. ويُميّز ميرشايمر بين الكذب وأشكال أخرى من الخداع السياسي، مثل الإخفاء أو "تجميل الحقيقة"، مؤكدًا أن الكذب الحقيقي يتمثّل في الإدلاء بمعلومة يعلم القائد أنها زائفة، بهدف تضليل الآخرين عمدًا. ومن خلال هذا التمييز، يفتح المؤلف الباب أمام نقاش معمّق حول سبب كذب القادة والنتائج المترتبة على ذلك في السياسة الداخلية والخارجية على حدّ سواء.
الكذب الدولي وأسبابه الاستراتيجية
ومن أبرز إسهامات الكتاب تحليله أنواع الأكاذيب التي يستخدمها القادة السياسيون ودوافعهم المختلفة؛ إذ يصنّف ميرشايمر الأكاذيب السياسية إلى عدة فئات رئيسة، من بينها الأكاذيب بين الدول، وإثارة الخوف، والتغطية الاستراتيجية على الإخفاقات، والأساطير القومية، والأكاذيب الليبرالية.
ويُبرز ميرشايمر ملاحظة مثيرة للدهشة ومهمة في الوقت نفسه، وهي أن السياسيين يكذبون على شعوبهم أكثر مما يكذبون على الدول الأخرى. فخلافًا للاعتقاد الشائع بأن العلاقات الدولية مليئة بالخداع بين الحكومات، يرى المؤلف أن القادة يجدون صعوبة أكبر في تضليل خصومهم الخارجيين؛ لأن هؤلاء يملكون أجهزة استخبارات وخبراء قادرين على التحقق من المعلومات. أما الشعوب، فهي تميل إلى الثقة بقادتها؛ ما يجعلها أكثر عرضة للتأثّر بالدوافع الوطنية أو الأخلاقية التي يستخدمها القادة لتبرير قراراتهم. وهذه الأكاذيب الداخلية، خصوصًا تلك القائمة على التخويف أو المبالغة في التهديدات، يمكن أن تكون مدمّرة للديمقراطيات على المدى الطويل. فحين يكتشف المواطنون أن قادتهم كذبوا عليهم، تتآكل الثقة العامة، وتضعف الرقابة الديمقراطية، وينتشر الشك والسخرية من السياسة. ويحذّر ميرشايمر من أن الثمن الذي يدفعه المجتمع من جراء الأكاذيب لا يكون أخلاقيًا فحسب، بل سياسيًا واستراتيجيًا أيضًا؛ إذ تفقد الدول صدقيتها، ويصعب عليها إقناع الآخرين مستقبلاً بصدق نياتها.
ولا تكمن أهمية هذا الكتاب في تبريره الكذب، بل في جرأته على مواجهة الحقيقة المزعجة بأن الكذب جزء متجذّر في منطق السياسة الدولية. فميرشايمر، من منطلقه الواقعي، يرفض النظرة المثالية التي تفترض أن السياسة الدولية يمكن أن تقوم على الصدق المطلق والشفافية الأخلاقية، ويقدّم بدلًا منها رؤية أكثر واقعية عن التوازن الصعب بين الأخلاق والمصلحة في سلوك الدول. كما يبيّن أن الكذب ليس حكرًا على الأنظمة الاستبدادية فحسب، بل يمكن أن يكون سلوكًا تلجأ إليه الديمقراطيات أيضًا عندما ترى أن أمنها أو مصالحها على المحك. لكنه في الوقت نفسه يحذّر من اعتياد الكذب السياسي؛ لأن الإفراط فيه يقوّض القيم والمؤسسات التي تقوم عليها الدولة، ويهدد الثقة بين القادة والشعوب.
وفي الختام، تبرز أهمية هذا الكتاب في ربطه بين النظرية والتطبيق؛ فهو لا يكتفي بإدانة الكذب أو تبريره، بل يسعى إلى فهم أسبابه ومبرراته ونتائجه. وبهذا، يقدّم قراءة عميقة للبعد الأخلاقي والاستراتيجي في السياسة العالمية، ويذكّرنا بأن الصدق، رغم أهميته، ليس دائمًا خيارًا سهلًا في عالم تسوده الفوضى والمنافسة على البقاء.