صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الولايات العراقية العثمانية: دراسة تاريخية فيضوء وثائق الأرشيف العثماني، بداية العهد العثماني - أواسط القرن التاسع عشر، من تأليف الأكاديمي والباحث العراقي فاضل بيات، الذي كرّس عقودًا من مسيرته العلمية في التنقيب والكشف عن الحقائق المجهولة في تاريخ البلاد العربية خلال العهد العثماني، بالاستناد إلى الوثائق المحفوظة في الأرشيف العثماني في إسطنبول، والتي يربو عددها على مئة وخمسين مليون وثيقة. ويمثّل الكتاب دراسة فريدة من نوعها؛ إذ يعتمد على وثائق أصيلة تتضمّن معلومات لم يرد معظمها في المصادر التقليدية، سواء العربية منها أو العثمانية، مسلطًا الضوء على قضايا أساسية تحظى باهتمام الباحثين، وكاشفًا عن حقائق ظلت طويلًا خارج نطاق الدراسات المتخصصة في التاريخ العثماني، ولا سيما تاريخ العراق في تلك الحقبة.
وظّف المؤلف قسمًا من هذه الحقائق في هذا الكتاب لتتبّع تاريخ الولايات العراقية منذ انضوائها تحت الحكم العثماني وحتى أواسط القرن التاسع عشر، كاشفًا عن الجوانب المجهولة من تاريخ العراق خلال العهد العثماني الذي امتد أكثر من أربعة قرون متواصلة. ولم يكن إعداد هذا العمل مهمة يسيرة، بل تطلّب وقتًا طويلًا وجهدًا استثنائيًا؛ نظرًا إلى ما يقتضيه البحث في الوثائق العثمانية من صبر ودقة في القراءة والفهم والتحليل.
أما الهدف الرئيس من نشر هذه المعطيات في الكتاب، فهو تقديم خدمة للباحثين الذين لا تتاح لهم سبل الاستفادة المباشرة من الوثائق العثمانية، فضلًا عن الإسهام في سدّ الفراغ الذي تعانيه المكتبة العربية، ولا سيما فيما يتعلق بتاريخ الحكم العثماني في العراق.
استهلّ المؤلف كتابه ببحث الظروف التي أحاطت بتمدّد العثمانيين إلى العراق وتوطيد حكمهم فيه، مع تحليل دوافع هذا التمدّد. ثم أفرد لكل ولاية من الولايات الأربع (بغداد والبصرة وشهرزور والموصل) فصلًا مستقلًّا تناول فيه أبرز المحطات التي شكّلت منعطفًا في تاريخها، وما تركته من آثار في بناها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية. وتناول تعامل الدولة العثمانية مع هذه التطورات عبر مستويَين من الإدارة: المحلي المتمثل في مركز الولاية، والمركزي المتمثل في مركز الدولة. ولم تكن العشائر العراقية والزعامات المحلية بمنأى عن هذه الأحداث، بل شكّلت إحدى ركائزها الرئيسة طوال العهد العثماني؛ ما استدعى تخصيص فصل مستقلّ لدراسة مواقفها من الدولة، وأساليب تعامل السلطات المحلية معها، وأدوارها في التفاعل مع الدولة أو مناهضتها.
لم ينحصر تاريخ الولايات العراقية العثمانية في الجانبين الإداري والعسكري، بل شمل مختلف مجالات الحياة التي ترك العثمانيون فيها بصمات واضحة، تمثّلت في الإنجازات العمرانية والأوقاف والشؤون الدينية وتعزيز القدرات البحرية والنهرية والاهتمام بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك. ولم تقتصر هذه المظاهر على ولاية بعينها، بل تجاوز بعضها حدودها ليشمل أكثر من ولاية، وأحيانًا جميع الولايات، ما استدعى تخصيص فصل مستقل لمعالجتها.
لم يحظ معظم الموضوعات التي تتناولها فصول الكتاب باهتمام بحثي سابق؛ نظرًا إلى اعتمادها على مصادر أولية لم تُدرَس من قبل. ومن ثمّ، يقدم الكتاب مادة علمية تزوّد القرّاء، ولا سيما الباحثين، بمعلومات غير منشورة سابقًا باللغة العربية، تسهم في إعادة النظر في التصورات السائدة حول طبيعة الحكم العثماني في العراق وعلاقاته بالأهالي، وخصوصًا بالعشائر والزعامات المحلية.