صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب النص التأريخي وترجمته: مقاربات فلسفية ولغوية، من تأليف سفيان عبد اللّطيف.
يتناول الكتاب ثنائية التاريخ والترجمة بوصفهما طرفَي معادلة تفاعلية، محاولًا حصر المفاهيم التي تشكّل الأطر التقعيديّة لهذا التفاعل فلسفيًّا ولغويًّا. وهو يسعى للتأسيس النظري لترجمة النص التأريخي، متجاوزًا تباعد مسارات المقاربات التخصصيّة التي فصلت بين التاريخ من جهة، معتبرةً اللغة أداةً تُستعمل في تقييده، واللغة من جهة أخرى، معتبرةً التاريخ عنصرًا سرديًّا في بنية نصوصها؛ فأفضى التفاعل بينهما في عملية الترجمة إلى غياب أنساق فلسفية تؤطرها، وإلى فوضى تراكمية في ممارستها. وقد جاء هذا الكتاب ليحاول إعادة ترتيب مفاهيم هذا الموضوع ونقدها، بحيث يمكنُ استخدامها لمراجعة استراتيجيات الترجمة السائدة لتتلاءم مع خصوصية النص التأريخي، ولاقتراح استراتيجيات جديدة من شأنها أن تساهم في وضع قواعد هذا الحقل المعرفي وضبط ممارساته.
من "الأمانة" إلى "الكشف" أو سكيزوفرينيا المترجم
ينتقد الكتاب نمط تفكير يتعلّق بالمعاملة الأمينة مع النص التأريخي عند ترجمته، فلم تصدر أعمال بحثية كثيرة في هذا الموضوع منذ صدور كتاب ترجمة كلمة الرب لجون بيكمان وجون كالاو في عام 1974 اللذين دافعَا عن الأمانة التاريخية؛ ما جعل مترجمي النصوص التأريخية يدرجون على هذا التصوّر التقليدي للأمانة على نحوٍ لا يراعي خصوصية النص التأريخي من حيث مصادره الآتية من ماضٍ غيبي. أدرك المؤلّف أن هذه الخصوصية في حاجة إلى مراجعات عميقة لمنطلقاتها النظرية. فالأمانة بهذا المفهوم لا تستندُ إلى ملكية أخلاقية، يحوزها كاتب النص التأريخي؛ إذ هي ملكيّة متوهّمة بوصفِ معطيات التاريخ واقعة خارج نطاق إبداعه، ويعدّ نصّه الأصل محاولة لصوغها على نسق معيّن يختاره. ومن هنا، تصبحُ مهمة المترجم هي الكشف عن هذه المعطيات، لا الوفاء لمن حاول صوغها لغويًّا. وهو في هذه العملية يجد نفسه في حالة سكيزوفرينيا بين حقيقة المعطيات التاريخية التي لا يد له فيها بوصفها واقعًا ماضيًا، وصوغ صاحب النص الأصل، والصوغ الذي يختاره هو للنص الهدف. يناقش الكتاب هذه المسائل، مقترحًا لها حلولًا مختلفة، بحسب الحالات المتنوعة التي تكون عليها.
الترجمة بوصفها تأريخًا أم التأريخ بوصفه ترجمة؟
يواجه هذا الكتاب حقيقةً لطالما حاولت المعرفة التجريديّة تجاهلها، وهي تكافؤ فِعلَي التأريخ والترجمة وظيفيًّا. يترجم المؤرخ معطيات الماضي من أشكالها المصدريّة إلى نص لغويّ ذي نسق يسمحُ باستثمارها معرفيًّا، تمامًا كما يتعامل المترجم مع المعطيات نفسها باعتماد رموز اتصالية غايتها أداءُ هذه المعطيات للمتلقي، بدلًا من الرموز الاتصالية التي اختارها المؤرخ. ومن هنا، نشأ النقاش بين النظريات الثقافية والاتصالية والوظيفية والتفكيكيّة، وكلها تتفق على منح المترجم معايير أخرى، تسمحُ له بالتصرُّف فيما يراه مناسبًا من تقنيات واستراتيجيات، في حدود ما يتيحُ أداء المعطيات التاريخية في النص. ومن هذا المنطلق، يقترحُ المؤلّف، بعد نقد الاستراتيجيات التي تقترحها هذه النظريات، استراتيجيا الاستئراخ التي تتشكّلُ قاعدتها من مجموع المراجعات التي قام بها من بداية الكتاب، وتقدّم منظورًا معياريًّا أكثر واقعيّة لـممارسة ترجمة النصوص التأريخية. وهو يراعي في ذلك أصلها المعطياتي وأنساقها الخطابية ووظائفها الاتصالية والمعرفية، وأحوال المترجم عند أدائها، آملًا أن تساهم في التأسيس لبحوث أخرى تثري الموضوع.
