صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الابتكار في العلوم الاجتماعية: الهامشية المبدعة L’Innovation dans les sciences sociales: la marginalité créatrice، ضمن سلسلة ترجمان، من تأليف ماتي دوغان وروبرت باهر وترجمة محمود الذوادي، ويقع في 384 صفحة، شاملًا مقدّمةً وأربعةً وعشرين فصلًا، وفهرسًا عامًّا.
الابتكار بوصفه ديناميةً داخلية تساهم في تطوّر العلوم الاجتماعية
يُعدّ كتاب الابتكار في العلوم الاجتماعية، الصادر عام 1991، من أهم المؤلفات التي تناولت بنظرة نقدية عميقة مسألة تجدّد العلوم الاجتماعية وقدرتها على الابتكار، فضلًا عن أهميته في التجسير بين النظرية والممارسة العملية. ولا يتعامل الكتاب مع الابتكار بوصفه مفهومًا اجتماعيًا فحسب، بل باعتباره أيضًا دينامية داخلية تمسّ البُنى المعرفية للعلوم التي تدرُس المجتمع نفسه. ويقدّم منظورًا ميتا-علميًا حول إنتاج المعرفة في الحقول الاجتماعية، موضحًا كيف يؤدي التقدّم العلمي إلى التخصّص والتشرذم، وأحيانًا إلى الجمود الفكري، مع إلقاء الضوء على الدور المؤسسي والمنهجي في عرقلة الإبداع.
الهامشية المبدعة والتوازن بين التخصص والانفتاح
يدفع التطوّر المعرفي نحو تفكّك الحقول العلمية إلى تخصصات فرعية؛ وهو ما يتيح تحليلات أكثر دقة، لكنه قد يحدّ من الرؤية الكلية ويضعف التواصل بين الباحثين. ولا يتمثّل الابتكار الحقيقي في تراكم المفاهيم أو إنتاج بيانات جديدة داخل الحقل نفسه، بل في تجاوز الحدود الفاصلة بين التخصصات، وفي القدرة على نقد النماذج المهيمنة واستعارة المناهج والأدوات من ميادين أخرى. وهنا تكمن المفارقة؛ فالتخصص هو دليل على التقدّم، لكنه قد يتحوّل إلى عائق، أما الإبداع فقد يؤدي إلى عزلة فكرية تمنع التواصل بين الحقول. ومن هنا تبرز البينية المعرفية والهامشية المبدعة بوصفهما محرّكَين أساسيَين للابتكار العلمي؛ إذ غالبًا ما تنشأ الأفكار المبتكرة في هوامش الحقول الأكاديمية لا في مراكزها الراسخة. ويشدّد المؤلفان على أهمية العوامل المؤسسية والمعرفية والمنهجية للابتكار؛ فالبُنى الأكاديمية، وآليات التمويل، ووضع التخصصات، وهيمنة بعض النماذج النظرية أو الأساليب المنهجية تؤثر جميعها في قدرة العلوم الاجتماعية على التجدد والإبداع، وتقلل فرص التجديد. وإذا كان التقدّم العلمي قد يؤدي أحيانًا إلى تضخّم عدد التخصصات وانغلاقها، فإنه يمكن، حين يقترن بانفتاح فكري، أن يفضي إلى تطورات نوعية. وتكمن حيوية العلوم الاجتماعية في تحقيق توازن بين التخصّص والاتصال المعرفي، وبين العمق التحليلي والحوار العابر للتخصصات.
يخلص الكتاب إلى أن الابتكار في العلوم الاجتماعية ليس عملية تلقائية أو مضمونة، بل هو ثمرة تفاعل معقّد بين استعداد الباحثين لتجاوز الأطر الراسخة، ومرونة المؤسسات الأكاديمية التي تتيح التجريب، والبيئات الفكرية التي تسمح بالاختلاف والتجريب، والاعتراف بقيمة العمل الهامشي. وبهذا، تُعدّ التجزئة العلمية علامة على التقدّم ومصدرًا للتحديات في آنٍ واحد، في حين تنبع الإبداعية غالبًا من الأطراف، حيث تتلاشى الحدود وتتقاطع الأفكار بحرية.
يعد الكتاب مؤلفًا أساسيًا لفهم كيف يمكن أن تعيد العلوم الاجتماعية ابتكار ذاتها وتحافظ على راهنيتها، وتواصل إنتاج معارف قادرة على تفسير التحولات المعقدة في العالم المعاصر.