تمت عملية الإضافة الى سلة التسوق بنجاح لديك الآن  مادة/مواد في سلة التسوق الخاصة بك
  • شارك:
أفول الإنسان العمومي
  • السعر :
    14.00 $
  • بعد الخصم :
    11.20 $
  • الكميّة:
  •  

يقدّم ريتشارد سينيت في كتاب أفول الإنسان العمومي تحليلًا معمّقًا لمسار التحوّلات التي شهدتها الحياة العامة في الغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي أسهمت في تآكل الثقافة العامة وصعود مجتمع تهيمن عليه النزعة الفردانية والانكفاء على الذات والسعي المحموم وراء الحميمية.

ويرى أنّ الأفراد المعاصرين، باسم العفوية والصدق الداخلي، أصبحوا شديدي الوعي بذواتهم إلى حدٍّ يقوّض قدرتهم على ممارسة العفوية ذاتها. ومع تعاظم تقديس الشخصية والانغماس في الذات، وجد الناس أنفسهم عالقين في دوّامة إثبات وجود لذاتٍ لا يعثرون فيها إلّا على مشاعر مبهمة تفتقر إلى معنى. وهكذا تتشكّل حلقة مفرغة يرى سينيت أنّ الحداثة انزلقت إليها؛ فكلما تعاظم البحث عن الإشباع الذاتي، ازداد التمركز حول الذات وتراجع الارتباط بالحيّز العمومي.

يتمحور تحليل المؤلف حول فكرة جوهرية هي فقدان القدرة على "اللعب"، أي ممارسة أشكال التفاعل الاجتماعي التي تجمع بين المسافة والمرونة، وتتيح التواصل من دون مطالبة الآخر بالحميمية. فاللعب، بمعناه الاجتماعي، يمثّل وسيلة للتحرّر من ثقل الذات ويوفّر مساحة للاندماج في العالم. ويؤكد أنّ هذه القدرة كانت حاضرة بقوة في مدن القرن الثامن عشر، مثل لندن وباريس، حيث ازدهرت حياة عمومية قائمة على الرموز والتمثيل والتبادل الاجتماعي بين الغرباء. كان للفضاء العمومي حينها قواعده وأدواره، بينما بقي الفضاء الخاص عالمًا آخر مختلفًا، طبيعيًا وارتبط بالحميمية. وقد مثّل هذا الفصل الواضح بين الحيّزَين أساسًا لتوازن صحي في التجربة الاجتماعية الحديثة.

يستعرض سينيت انهيار هذا العالم المسرحي العام في القرن التاسع عشر، محدِّدًا ثلاثة عوامل رئيسة تقف خلف هذا التحوّل: الرأسمالية الصناعية، والعلمانية الجديدة، وبقايا الأيديولوجيا المرتبطة بالنظام القديم. ويستند في تحليله إلى مجموعة متنوعة من الأمثلة التاريخية، تشمل التحولات الديموغرافية، والتغيرات في أنماط اللباس والإيماءات والكلام، والتحول الذي طرأ على المسرح، وظهور المتاجر الكبرى، واختفاء الدور الاجتماعي للمقاهي، وتبدّل أنماط الأسرة، وصعود المؤدي الفني المرموق، وقضية دريفوس، وبروز الزعيم الكاريزمي. وعبر هذه التحولات جميعها، تراجع التفاعل الاجتماعي وانقلب المجتمع إلى جمهور من المتفرّجين. وتلاشت فكرة الدور العام، بينما تحوّلت الأسرة إلى ملاذٍ آمن تُقاس على أساسه الحياة العامة، وتُعاد من خلاله صياغة معاييرها.

يؤدي ذلك إلى ما يسميه سينيت "التحيّز المضاد للمدينة"، أي النفور من المسافة والاختلاف اللذَين يميزان الحياة الحضرية. ومع تراجع التفاعل بين الغرباء، ازداد الأفراد انعزالًا وقلقًا حيال مشاعرهم الخاصة، وانصرفوا إلى محاولات مستمرة لتأكيد ذواتهم من دون بلوغ أيّ رضى فعلي. وفي إطار هذا الانكفاء، تبقى القوى الاجتماعية المهيمنة في منأى عن المساءلة، بينما يضمحل النظام العام ويزداد الفضاء الاجتماعي هشاشة.

أما في العالم الحديث فتحوّلت الحميمية إلى القيمة العليا، وتُقاس العلاقات بمدى اقترابها من أعماق النفس. ويقود هذا التحول إلى تسييس الحياة الداخلية، حيث تتحول الفئات السياسية إلى فئات نفسية، وتُحمَّل العلاقات القريبة عبئًا ثقيلًا من التوق إلى الديمومة والأمان. إنّ هذا الانتصار للحميمي يخلق ما يسميه المؤلف "طغيان الحميمي"، أي يوجِد واقعًا اجتماعيًا خانقًا يضيّق إمكانات التفاعل، ويقوّض المسافة الضرورية لقيام حياة عمومية سليمة.

تُفاقِم وسائل الإعلام الحديثة هذا الوضع؛ إذ إنّ التدفّق الأحادي للرسائل عبر التلفزيون والراديو يحوّل المواطنين إلى متلقّين سلبيين، بينما تُحوَّل الحياة الخاصة للسياسيين والمشاهير إلى مادة استهلاكية. وهكذا يحلّ الاهتمام بالشخصيات محلّ الاهتمام بالسياسة، والعاطفة محلّ الفعل. وبات السياسيون يتحدثون عن رغباتهم الخاصة، ويُحتَفى بما يسمَّى "الصدق" بدلًا من الكفاءة، فتتآكل المشاركة العامة على نحو متزايد.

يخلص سينيت إلى أنّ الإنسان المعاصر يعاني فراغًا رمزيًا عميقًا بعد فقدان الطقوس والأساطير والرموز المشتركة. وتغدو الحميمية، في هذا السياق، شكلًا جديدًا من الحنين الديني في عصر علماني. غير أنّ هذا الانكفاء يخنق الأفراد ويعمّق عزلتهم. ويرى أنّ تجاوز هذا المأزق يتطلب إعادة التفكير في المقدّس وابتكار أشكال جديدة للحياة العامة تعيد للمجتمع مساحته ومسافته ولعبه ومعناه.

يُعَدّ هذا الكتاب من الأعمال الرائدة في دراسة المجتمع الحديث، إذ إنه يقدِّم تحليلًا عميقًا للتحوّل التاريخي في الحياة العامة. وتكمن أهميته في قدرته على وصل النفس الفردية بالبنى الاجتماعية الكبرى.

* موقع الكتب الإلكترونية يرحب بتعليقات و مناقشات المشاركين الحية و المهذبة في نفس الوقت ، لذلك نحن لا نتيح شاشة التعليقات ظاهرة و مفتوحة بشكل افتراضي، الى أن يقوم المستخدم بتسجيل الدخول.
البيانات غير متوفرة للمراجعات