في التصاعد الحالي - ما بعد سنة 2011 - لأزمة الدولة في المشرق العربي، كثيرًا ما يركز المحللون على الانقسامات الأفقية لتفسير الأزمة التي تواجهها الدول والمجتمعات العربية في مساعيها لإقامة نظم ديمقراطية، أو حتى لتجنب مخاطر الحرب الأهلية. يقدم الوضع القائم في سورية والعراق والنزاعات العنيفة التي تشهدها هذه المجتمعات نماذج حية للدور الذي يمكن أن تؤديه الطائفية في قطع الطريق على اكتمال تأسيس الدولة القومية وفي إفشال التحولات الديمقراطية. وشيئًا فشيئًا يكاد الرأي العام في المنطقة يستسلم لفكرة قبول الطائفية والنزاعات الطائفية كما لو أنها عاهة ولادية مرتبطة ببنية المجتمعات ذاتها.
يسعى البحث هذا إلى إنجاز انزياح عن التحليلات السابقة المتجذرة ضمن اقتراب ثقافوي يبدو أنه بدأ يهيمن على الأبحاث التي تتصدى لسؤال الطائفية. فالنموذج الثقافوي يفسر عسر الاندماج في تواصل البنى الطائفية والهوياتية، كما يفسر استمرار هذه البنى نفسها بعسرالاندماج، وهي الدائرة التي لا يمكن الخروج من أسرها إلا عبر الخروج بالسؤال الطائفي من الفضاء الأنثروبولوجي إلى الفضاء السياسي، أو بعبارة أدق الفضاء السوسيو- سياسي.
ويقترح البحث الاشتغال على سؤال الطائفية في علاقته بأزمة نموذج الدولة. وضمن هذه المقاربة لا يمكن تفسير استمرار المسألة الطائفية بالخصائص الذاتية للطوائف أو الذات الفسيفسائية العربية، بل بالعودة أساسًا إلى أنماط التحديث السائدة ونموذج الدولة الذي تأسس بموجبها. يموضع البحث فرضيته الرئيسية بالتركيز على غياب/ تغييب الدولة الوطنية الحديثة في المشرق العربي لمصلحة نمط آخر من الدولة هو الدولة النيوباتريمونيالية، حيث تجري إعادة إنتاج متواصلة للبنى التقليدية وتحويلها إلى شبكات باتريمونيالية. وعوضًا عن تنظيم علاقة دولة - مواطن على أساس مبدأ المواطنة، جرى / يجري تنظيمها على أساس زبوني، وعبر أساليب وقنوات غير رسمية. وينظر البحث إلى التسلطية بوصفها إحدى خصائص أو أحد ملامح الدولة النيوباتريمونيالية، وإلى فهم توسعة الجهاز البيروقراطي كتمديد للشبكات الباتريمونيالية، وهي الشبكات التي يُمكّن تفحصها في علاقتها بخطوط التقسيم الإثنية من تحسين حظوظنا في فهم حالة الانبعاث الطائفي التي تختبرها مجتمعات المشرق العربي.