لا شكّ في أن أهمية كتاب المؤلفة شهيرة شرف حول: منطق الضّبابية والعلوم الإنسانية والاجتماعية (مقاربة نظرية - تطبيقية)، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات (279 صفحة بالقطع الوسط)، تكمن في أنه أول كتاب بالعربية يبحث في منطق الضّبابية ومكوّناته النظرية من الناحية المنطقية، ويحاول الكشف عن إمكان تطبيق المنطق نفسه في دراسة ظواهر إنسانية واجتماعية عربية باعتباره طريقة تفكير ونظر إلى العالم مختلفة عن طريقة المنطقين "الثُّنائي القيم" و"المتعدِّد القيم"، على المستوى النظري الفكري.
بَنت شرف بحثها هذا على إشكاليةٍ قوامها أن الظواهر الإنسانية والاجتماعية أشد غموضًا وتعقيدًا من الظواهر الطبيعية والفيزيائية، فضلًا عن كونها ذات طبيعة كيفية وفردية؛ وأن حرية الفرد تزيد تلك الظواهر غموضًا وتعقيدًا، وتجعل التنبؤ بها صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا. لذا، لم تعتمد شرف المنهج الكمي الإحصائي، إذ وجدته قاصرًا عن فهم الجوانب الكيفية والغامضة والمعقدة، ويتجاهل الطبيعة الكيفية، ويعتمد التكميم الصارم، ويتجاهل الغموض بوصفه تداخلًا بين حالات الظاهرة، وانتقالًا انسيابيًا من حال إلى أخرى، وينخرط في تبسيط التعقيد واختزال البيانات، بل اندفعت باحثةً عن منهج يعالج تلك الظواهر بطريقة مختلفة، ويراعي - قدر الإمكان - خصائص تلك الظواهر. فكان منطق الضّبابية، كما تقول في مقدمة كتابها، "خطوة نحو الأمام في مسعى الإنسان إلى فهم نفسه".
تُضيف المؤلفة في المقدمة نفسها: "يولّد الغموض والتعقيد اللايقين في المعرفة والالتباس في اللغة. لذا، يحاول هذا البحث تبنِّي أطروحة مفادها أن استخدام منطق الضّبابية في العلوم الإنسانية والاجتماعية أوْلى من استخدامه في العلوم الطبيعية؛ لكونه يراعي الكثير من خصائص الظواهر الإنسانية والاجتماعية، ما يجعله أداة منهجية أكثر إتقانًا من المنهج الكمي الإحصائي المستند إلى المنطق الثُّنائي القيم أو المتعدِّد القيم". وتطرح شرف سؤالًا تأسيسيًا لبحثها: كيف يمكن أن نجعل من منطق الضّبابية أداةً منهجية لمعالجة البيانات المرتبطة بالظواهر الإنسانية والاجتماعية؟ وما الفوائد التي يحققها ذلك؟ وكيف يساهم في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية؟
يتألف هذا الكتاب من تقديم بقلم يوسف سلامة، وأربعة فصول. يهتم أوّلها وعنوانه الجذور التاريخية لمنطق الضّبابية بالكشف عن عناصر الضّبابية في بعض ميادين المعرفة، فلسفية أو علمية، والتي كان لها دور في ولادة هذا المنطق. ظهر بعض هذه العناصر في الطاوية والبوذية. وفي الفلسفة الأرسطية، وتعدُّ مقولة الإمكان أول محاولة لطرح مشكلة قيم الصدق الثُّنائية، من دون أن تنجح نجاحًا كبيرًا. وسعى المناطقة في بداية القرن العشرين إلى حل هذه المشكلة على المستوى المنطقي، فولد المنطق المتعدِّد القيم. وكان لتطور العلوم الفيزيائية والرياضية دور مهم في التركيز على اللايقين بدلًا من اليقين، وعلى التعقيد بدلًا من البساطة، وعلى الفوضى بدلًا من النظام، فساهم التقدم العلمي في تنبيه الباحثين إلى طريقة جديدة في التفكير، تبلورت ليولد منها منطق الضّبابية.
يبحث الفصل الثاني، وعنوانه مسوّغات استخدام منطق الضّبابية، في مسوّغات استخدام هذا المنطق، كاشفًا عن تعينات الضّبابية على مستويات الأنطولوجيا (علم الوجود) والإبيستمولوجيا (علم المعرفة) والسيمانطيقا (علم الدلالة). ويقارن بين الاحتمالية والضّبابية، خصوصًا أن أنصار الاحتمالية كانوا أكثر من انتقد الضّبابية، وموضحًا أن اللايقين لا يقتصر على كونه نقصًا في المعرفة بل له أشكال أخرى يرتبط بعضها بالموضوع، وبعضها بالذات، وبعضها بالتداخل بين الميادين المتعددة، أو انتماء الظاهرة الواحدة إلى أكثر من ميدان واحد، في الوقت عينه.
يركز الفصل الثالث، مكوّنات منطق الضّبابية، على مكونات منطق الضّبابية من جانبين: نظري منطقي، وتطبيقي تقني. يتناول الجانب النظري المجموعات الضّبابية وتوابع الانتماء الضبابي والمتغيّرات اللغوية والعلاقات الضّبابية من زاوية نظرية منطقية، مقارنًا بين الانتماء إلى المجموعات الضّبابية وإلى المجموعات التقليدية، وبين قيم الصدق في منطق الضّبابية وفي المنطقين الثّنائي القيم والمتعدِّد القيم. ويتناول الجانب التطبيقي استخدام هذه الأدوات في الاستدلالات الضّبابية لتوظيفها في بعض التطبيقات التقانية، محاولًا إبراز مزايا منطق الضّبابية والكشف عن عيوب المنطق الثُّنائي القيم أو المتعدِّد القيم، تطبيقيًا تقانيًا ونظريًا منطقيًا.
تُسهب المؤلفة في الفصل الرابع والأخير من كتابها، وعنوانه منطق الضّبابية أداة منهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، في استخدام الضّبابية أداةً منهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، مع المحافظة على معاني التحكم الضبابي وروحه، في الميدان التقاني، والانتقال من مفهوم التحكم الضبابي إلى مفاهيم تلائم الظواهر الإنسانية والاجتماعية، كاتخاذ القرار أو تقديم النصح والمشورة أو استشراف الخطط المستقبلية. تكتب شرف في مقدمة كتابها: "تطلَّب تطبيق هذا المنطق الكشف عن جوانب قصور المنهج الكمي الإحصائي في معالجة البيانات المرتبطة بالظواهر الإنسانية والاجتماعية، ثم الانتقال إلى طريقة منطق الضّبابية في التقويم، وإبراز مقدرة المجموعات الضّبابية على تمثيل المفاهيم المقابلة للظواهر الغامضة والمعقدة، وتصميم هذه المجموعات وقدِّها على قدِّ تلك المفاهيم. وبعد ذلك، انصبَّ الاهتمام على تحليل الضرورة والكفاية استنادًا إلى المبادئ النظرية للمجموعة الضّبابية، وعلى بيان الفروق بين الضرورة والكفاية بالمعنى التقليدي، والضرورة والكفاية بمعناهما الضبابي. وأخيرًا كشف البحث عن آلية اتخاذ القرار في بيئة ضبابية من خلال أدوات منطق الضّبابية".
في خاتمة الكتاب، تحاول شرف استنباط الفوائد التي يحققها استخدام منطق الضّبابية والآفاق التي يفتحها أمام البحث الفلسفي، خصوصًا المتعلق بالتقريب بين المنطق والحياة، إضافة إلى الكشف عن بعض صعوبات تطبيق هذا المنطق في دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية. واعترفت شرف بأن صعوبات كثيرة اعترضت سبيلها في أثناء تأليفها هذا البحث، بسبب وقوع منطق الضّبابية على التخوم بين الفلسفة والعلم، وبين المنطق النظري الصوري والمنهج التطبيقي الأداتي، وبين الفكر المجرّد والحياة اليومية المعيشة؛ وغياب أي مرجع أو بحث أكاديمي بالعربية عن هذا الموضوع؛ وندرة تطبيقات منطق الضّبابية في العلوم الإنسانية والاجتماعية وقلة البحوث فيها.