صدر عن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ولادة الطب السريري، وهو ترجمة إياس حسن لكتاب ميشيل فوكو Naissance de la Clinique. هذا الكتاب (336 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) مؤلف من مقدمة وعشرة فصول.
في المقدمة، يقول فوكو إن بحثه هذا يتضمن مشروعًا يُقصدُ به أن يكون تاريخيًا ونقديًا معًا، من باب أن الأمر منوطٌ، خارج كل مقصد موجَه، بتحديد شروطِ إمكان الخبرة الطبية مثلما أدركها العصر الحديث. ويجب القول بوضوح إن هذا الكتاب لم يُكتب لمصلحة طبّ دون آخر، أو ضدّ الطب لمصلحة غيابه، إنّما المقصود دراسة تسعى إلى أن تستخلص من سماكة الخطاب شروطَ تأريخه.
وعي مرضي
في الفصل الأول، أماكن وأصناف، يرى فوكو أن المرض، قبل أن يخرج من البدن، يتخذ تنظيمًا تراتبيًا ضمن عائلات وأجناس وأنواع، وقد يبدو في الظاهر أن الأمر لا يعدو كونه لوحة تساعد في تعلُّم ميدان تكامل الأمراض. لكن الطب التصنيفي يفترض تمظهرًا معينًا للمرض: لم يتم تشكله قط من أجل ذاته، لكن يمكنى تحديد مستلزماته الأساس. وكما أن شجرة الأنساب، في ما هو أبعد من المقارنة التي تتضمنها ومن جميع ثيماتها التخيلية، تفترض فضاء تكون القرابة فيه قابلة للتشكل، فإن اللوحة المنزولية تنطوي على صورة للأمراض، ليست سلسلةَ النتائج والأسباب، ولا السلسلة الزمنية للحوادث، ولا مسارها الظاهر في الجسد البشري. وبحسبه، المكان الطبيعي للمرض هو المكان الطبيعي للحياة، أي الأسرة.
في الفصل الثاني، وعي سياسي، يقول فوكو إن الوباء يملك نوعًا من الفردانية التاريخية، ويجب أن نستخدم معه طريقة معقدة في الملاحظة. فهو كظاهرة جماعية يتطلب معاينة متعددة، وكعملية مفردة، يجب وصفها بما لها من فرادةٍ وحدث عرضيين وطارئين. ينبغي وصف الحدث بتفصيلاته، وتبعًا للانسجام الذي ينطوي عليه الإدراك الحسي المتعدد: معرفة ملتبسة، ومزعزعة بمقدار ما هي جزئية، وعاجزة وحدَها عن بلوغ الجوهري.
تأريخ طويل
في الفصل الثالث، الحقل الحر، يتكلم فوكو على ظاهرة الالتقاء بين متطلبات الأيديولوجيا السياسية ومتطلبات التكنولوجيا الطبية. فقد طالب الأطباء ورجال الدولة، في جهد موحّد وبتعبير متشابه أحيانًا، لكن لأسباب متفاوتة في جذورها، بإلغاء ما يمكن أن يعيق تأسيس فضاء جديد: ثمة مستشفيات تُغيِّر القوانين الخاصة المتحكمة بالمرض، وتُفسِد القوانين التي لا تقل صرامة، والتي تحدد الصلات بين السلطة الملكية والغنى، وبين الفقر والعمل، وهناك الطوائف المهنية للأطباء التي تمنع تشكل وعي طبي متمركز، وتمنع ممارسة الخبرة على نحو حرّ ومن دون حدود، حيث تؤدي بنفسها إلى العالمية، كذلك ثمة كليات طب لا تعترف بالحقيقي إلا ضمن بُنيات نظرية، وتصنع من المعرفة امتيازًا اجتماعيًا.
في الفصل الرابع، تاريخ السريريات الطويل، يرى فوكو أن الطب بدأ منذ القرن الثامن عشر يميل صوب سرد تاريخه الخاص كما لو أن سرير المرضى كان مكانًا ثابتًا ومستقرًا للتجربة، خلافًا للنظريات والمنظومات التي بدت عرضةً لتبدلٍ مستمر وتخفي تحت تأملها صفاء الوضوح السريري. كان الشأن النظري عنصرَ التغيير المستمر ونقطةَ انتشار التنويعات التاريخية على المعرفة الطبية ومكانَ الصراعات والاضمحلال، ففي هذا العنصر النظري تكون المعرفة الطبية قد أشارت إلى نسبيتها الهشة. في المقابل، كان في إمكان السريريات أن تكون عنصر تراكمها الإيجابي، وكان في إمكان المعاينة الثابتة للمريض أن تسمح للطب بألا يختفي بالكامل مع كل تأمل جديد، بل أن يصونَ نفسه ويتطورَ بتأثير الفترات الصاخبة من تاريخه، ضمن تاريخانية كَونُ الشَيْءِ تاريخيًّا.
علامات وحالات ومستشفيات
في الفصل الخامس، درس المستشفيات، يجد فوكو أن لا غرابة في أن تصير ثيمةُ الطبّ المنظم بكامله حول السرير أشد طغيانًا على ثيمة الطب الذي أعيد إلى الحرية. ليس ما حصل ردة فعل على الرغم من أن عواقبه الاجتماعية كانت بشكل عام رجعية ولا تقدمًا، على الرغم من أن الطب أفاد منه على أكثر من صعيد، إنما المقصود إعادة بناء ثيمة الطب في الحرية، ضمن سياق تاريخي محدد. ففي ميدان متحرر، ستحدِّد الحاجةُ إلى الحقيقة المفروضة على المعاينة، بنياتِه المؤسساتية والعلمية.
في الفصل السادس، عن العلامات والحالات، يرى فوكو أن المرض كان، في الموروث الطبي للقرن الثامن عشر، يشاهَد بناءً على الأعراض والعلامات، ولم تكن هذه ولا تلك تتميز تبعًا لقيمتها الدلالية بمقدار خصائصها الشكلية. فالأعراض هي الشكل الذي يظهر به المرض، من بين كل ما هو مرئي، كانت تعتبر الأقرب إلى الجوهر، وإلى طبيعة المرض العصيّة على البلوغ، وهي انتساخه الأول، "فالسعال والحرارة والألم الجانبي وضيق التنفس ليست هي التهاب الجنب بالذات، ذلك أن هذا المرض لا يتاح للحواس ولا ينكشف إلا بالتفكير والتحليل، ولكنها تشكل عرَضه الجوهري لأنها تسمح بتعيين حالةٍ مرضية (مقابل الصحة)، وجوهرٍ مرضي (مختلف عن ذات الرئة)، وسببٍ مباشر (الانصباب المصلي). فالأعراض تشِفّ على صورة المرض الثابتة، المتأخرة قليلًا، المرئية والمخفية".
شرّحوا لتعرفوا
في الفصل السابع، أن ترى، أن تعرف، يقول فوكو إنّ المعاينة التي تشاهِد تمتنع عن التدخل، فهي خرساء وعديمة المبادرة. وفي ثيمات الطبيب السريري، تقترن نقاوة المعاينة بصمت معين يسمح بالإصغاء. ينبغي إذًا لخطابات المنظومات الثرثارة أن تتوقف. كذلك ينبغي التقليل من موحيات الخيال التي تستبق ما يتم إدراكه، وتكشف عن صلات موهِمة وتُنطِق ما هو عصيّ على الحواس. فالمعاينة تكتمل في حقيقتها الخاصة وتحصل على منفذ إلى حقيقة الأشياء إذا ما نظر إليها بصمت، والمعاينةَ السريريّة تسمع لغةً في اللحظة التي تبصر فيها مشهدًا.
في الفصل الثامن، افتحوا بضع جثث، يرى فوكو أن المؤرخين ربطوا بين الذهنية الطبية الجديدة واكتشاف التشريح المرضي؛ إذ بدا أنه يحددها من حيث الجوهر، ويدعمها ويغطيها، ويشكل منها في آن التعبير الأكثر حيوية والسبب الأكثر عمقًا، وبدا أن مناهج التحليل والفحص السريري، بل وإعادة تنظيم المدارس والمستشفيات، تستمد أهميتها من التشريح المرضي، الذي حظي بامتياز لافت في أن يأتي في اللحظة الأخيرة من المعرفة، ليقدم المبادئ الأولى لصفتها الوضعية. لكن لماذا هذا الانقلاب في التعاقب الزمني؟ لأن الدين والأخلاق والأحكام المسبقة كانت تعارض فتح الجثث. وبالتالي، لم يعش التشريح المرضي إلا في الظل، على تخوم الممنوع وبفضل جرأة المعارف المتخفية التي كانت تكابد اللعنة، فكان التشريح يتم في جنح الظلام فحسب، في الخوف الهائل من الموتى.
المرض بعين الموت
في الفصل التاسع، المرئي المخفي، ينظر فوكو إلى المرض من جهة الموت، فيجد أنه يملك أرضًا، موطنًا مُحدَدًا، مكانًا مُحكمًا مخفيًا، تنعقد فيه قراباتُه وعواقبه، وتحدد القيمُ الموضعية (المحلية) أشكالَه، "وانطلاقًا من الجثة نراه، من باب المفارقة، حيًا"، هي حياة تمتلك صورها وقوانينها الخاصة. يضيف أن الطب بحث عن الصلات بين المرض والحياة، وحده مصطلح ثالث استطاع أن يقدم لالتقائهما، هو الموت. فانطلاقًا منه، يتجسد المرض ضمن حيز يتوافق مع حيز في الجسم البشري، يتبع خطوطها ويُقطِّعها، ينتظم تبعًا لهندستها العامة، وينعطف كذلك نحو صفاتها الفريدة.
في الفصل العاشر، أزمة الحميات، يطرح فوكو جملة من الأسئلة: هل لكل الأمراض آفاتها المقترنة بها؟ وهل إمكان أن نخصص لها مقرًا، يُعتبَر مبدًأ عامًا في علم الأمراض، أم إنه يقتصر على زمرة خاصة جدًا من الظواهر المرضية؟ في هذه الحالة، ألا يمكن البدء بدراسة الأمراض من طريق تصنيف من نمط الوصف المنزولي (اضطرابات عضوية -اضطرابات غير مرتبطة بالأعضاء) قبل الدخول في ميدان التشريح المرضي؟ برايه، مهما قيل عن ميدان المنزوليات إنه بقي بكامله تحت سيطرة التشريح المرضي، وإن مرضًا حيويًا لم يكن بالإمكان إثبات صفته هذه إلا من طريق فشل البحث عن الآفات. فما يحدد طبيعة المرض هو نوعه، لا مقره ولا سببه.