غالبًا ما تُعتبر القومية والدول القومية من نتاجات التحديث، تلك السيرورة التي أفقدت الدين كثيرًا من فضائه السياسي، أن لم تكن أفقدته كلّ فضائه السياسي. ولذلك، بات من الحكمة التقليدية القول أن صعود القومية يتزامن دومًا مع هبوط التديّن، إذ أن كلّ كسب تحرزه الدول القومية في ميدان التحديث هو دومًا خسارة يخسرها الدين. لكنّ الحكمة التقليدية ليست صائبة على الدوام، كما تشير دراسات الحالات اللافتة التي يضمها الكتاب الممتاز الأمّة والدِّين: وجهات نظر حول أوروبا وآسيا الذي حرره بيتر فان در فير وهارتموت ليمان وصدرت ترجمته العربية، لمحمود حداد وسعود المولى، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
يبدأ الكتاب (368 صفحة، موثقًا ومفهرسًا) بمقدمة ثاقبة، تكشف عن رغبة المحررين والمؤلفين في القطع مع الثنائيتن التقليديتين النافذتين في خطاب الحداثة الغربي: الدين والقومية، الغرب الحديث والبقية المتخلفة. وبغية القيام بهذا القطع فعليًا، يستقصي هؤلاء المساهمون ببراعة كلًا من الأمّة والدين وتفاعلاتهما في سياق التحديث في أربعة بلدان، هي بريطانيا وهولندا والهند واليابان.
بعد المقدمة عشرة فصول، تتناول خمسة منها الدين والقومية في بلد معين واحد. ففي الفصل الثالث، مثلًا، يشرح هيو ماكليود كيف شكّلت القومية البروتستانتية الهوية القومية البريطانية في القرن التاسع عشر، لتتهمش في القرن العشرين عندما غيرت الصراعات والحروب الدولية الخطيرة أساس الهوية القومية البريطانية. في الفصل السابع، تشير باربرا ميتكالف، من خلال دراسة خطابات وأفعال جماعة إسلامية مهمة في شمال الهند في العقود القليلة الأخيرة من الحكم الاستعماري، إلى أن "المؤسسات الرئيسة في المجتمع والاقتصاد، بما فيها مفهوم الأمّة عينه" أثبتت أنها تكوّنت جميعًا كجزء من التفاعلات بين الحداثة/العلمانية من جهة والتراث/الدين من جهة أخرى.
في الفصل الثامن، يلقي هاري هاروتنيان الضوء على إعادة توحيد الأمّة والدين في اليابان ما بعد الحرب من خلال عرض موجز لعملية التأطير السياسي التي انصبّت على مزار ياسوكوني، وهو معبد للشنتو غدا المكان الرسمي للذاكرة القومية، ذاكرة حروب اليابان وأرواح الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداء للأمّة. وفي الفصلين الخامس والتاسع، يناقش كل من بيتر فان رودن وفرانز غروت على التوالي موضوع القومية والدولة في هولندا. يرى فان رودن أن تفسيرات التاريخ الديني الهولندي بنتها التفاعلات المعاصرة بين الدولة والدين، وأنَّ ديناميات مثل هذه التفسيرات تعكس المشهد الدينامي للدين في هولندا. أمّا غروت فيبيّن كيف كانت "عملية بناء الأمة عملية معقدة" في هولندا، إذ تشابكت فيها المسائل الدينية والسياسية "بطريقة مألوفة واضحة".
تنظر ثلاثة فصول أخرى إلى أبعد من بلد واحد. ففي الفصل الثاني، يبيّن فان در فير، من خلال مراجعةٍ لعملية بناء الأمّة في كلٍّ من بريطانيا الفيكتورية والهند البريطانية، كيف كان الدين حاسمًا في قيام الدول وكيف تأثّر أشدّ التأثّر بالعلاقات الإمبراطورية التي ربطت المراكز المتروبولية والمستعمرات. وفي الفصل الرابع، تجد سوزان بايلي أن الدين والإيمان ساهما في تشكيل حتى التصورات الأشد علمية وموضوعية عن العرق، وأنَّ هذه التصورات أدّت أدوارًا مهمة في تشكيل سياسات المستعمرين وردات فعل الشعب المستعمَر. أمّا في الفصل السادس، فيستخدم بارثا تشاترجي حادثًا تاريخيًا مهمًا -هو التقسيم الثاني للبنغال- كدراسة حالة يشرح من خلالها كيف ظهر الدين والقومية اللغوية جنبًا إلى جنب في أثناء التفاعلات بين سياسيي المتروبول والنخب المحلية والشعب المستعمَر العادي. وهذه الفصول الثلاثة مجتمعة، إنّما تسلّط الضوء على الكيفية التي تفاعلت بها القومية والدين في المستعمرات الآسيوية التي تأثرت أشدّ التأثّر بالدول المتروبولية الأوروبية. لكن قصر اهتمام هذه الفصول على شبه القارة الهندية قد يضعف من أهميتها بالنسبة إلى تجارب العالم الأخرى.
أخيرًا، يقدّم الفصلان الأخيران في الكتاب نقاشين نظريين مهمين. ففي الفصل العاشر، يرى طلال أسد أنّه على الرغم من الفصل الذي ربما يكون قد قام بين القومية والدين في الدساتير الرسمية، فإنَّ الفضاء الاجتماعي السياسي الفعلي للدين لم يحدَّد بعد على نحوٍ واضح. وهو يشير إلى أنّه من الضروري، لفهم مثل هذه القضايا، تبنّي أنثروبولوجيا للعلمانية التي تبدأ بالسؤال "كيف ومتى وعلى يد مَن يجري تعريف صنفَي] مقولتيّ[ الدين والعلمانية". في الفصل الحادي عشر، ينظر بندكت أندرسن في الكيفية التي تضمن بها الدول القومية أنها على حقّ دومًا، ويشير إلى أن الطريقة التي تكسب بها شرعيتها الأساسية لا تختلف كثيرًا في الحقيقة عن طريقة الأديان.
تشير الفصول الأحد عشر في هذا الكتاب إشارة واضحة إلى أن صعود القومية والدولة القومية لا يعني بالضرورة أن الدين أصبح محصورًا تمامًا في المجال الخاص وحده. وبدلًا من ذلك، فإنَّ علاقات الدولة والدين في عملية التحديث، وكما تشير الأمثلة البريطانية والهولندية والهندية واليابانية، غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا بكثير مما جري تصويره في العادة. والحال، أن الدين، بدلًا من كونه نقيض الدولة القومية الحديثة، قد يكون فعليًا قوة دافعة مهمة تساعد على ولادة الدول القومية الحديثة.
تشكّل فصول هذا الكتاب ضربًا لافتًا من راسات الحالة المقارنة، الأمر الذي يعود فضله إلى اختيار المحررين لهذه الحالات اختيارًا ثاقبًا ومحترسًا. فالبلدان البلدان الأربعة المختارة تغطي دولًا قومية أوروبية رأسمالية بروتستانتية كانت ذات يوم قوى استعمارية قوية ودولًا آسيوية ناشئة تأثرت بشدة بسياسات المستعمِرين الغربيين وثقافتهم. وعلى الرغم من الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الضخمة بين هذه البلدان، شهدت عملية التحديث تفاعلًا متبادلًا للأمة والدين في جميع هذه الأمثلة الأربعة. لكنّ قوة النتائج التي توصل إليها الكتاب لا تخفي إهماله الدول المتروبولية الأوروبية الكاثوليكية ومستعمراتها الآسيوية، إسبانيا والفلبين مثلًا.