خصص الدكتور عزمي بشارة المجلّد الثاني من الجزء الثاني من كتابه الدين والعلمانية في سياق تاريخي (480 صفحة من القطع الكبير) لبحث الصيرورة التاريخية وعملية العلمنة، بالاستعانة بتحليل مختصر لنماذج تاريخية. واختار حالات تاريخية تحوّلت إلى نماذج لعلاقة الدين بالدولة في أوروبا، ثمّ قارنها بنموذج آخر لم يتطرّق إليه من قبل، هو النموذج الأميركي.
يقع الكتاب الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في ثلاثة أقسام موزّعة على ستة فصول. يتناول القسم الأوّل النماذج التاريخية ويقارن بينها في عدد من الزوايا. وفي القسم الثاني يتناول بالفحص والنقد نظريات العلمنة، وينتقد نقدها أيضًا من خلال مقاربات تتداخل فيها بين العلوم الاجتماعية وعلم التاريخ. وفي القسم الثالث يعالج توليد العلمنة لنقيضها سواء كان ذلك على مستوى عودة الديانات التقليدية إلى القيام بدور في المجال العام أو بنشوء الديانات السياسية وأشباه الديانات البديلة كجزء من عملية العلمنة ذاتها. وأخيرًا يطرح تصوّرًا لنموذج معدّل أكثر تركيبًا لنظرية العلمنة.
في الفصل الأوّل من الكتاب في العلمنة من زاوية نظر التأريخ وفي نقد تقديس العقل ذاته يشرح المؤلف أنّ عملية التأريخ بحدّ ذاتها تحَدٍّ للرواية الدينية لحوادث تاريخية، لأنّ كتابة التاريخ بالمعنى الحديث مهمّة علمانية تروي رواية أخرى غير التاريخ المقدس، وتُخضعُ المقدّس للتأريخ في الوقت عينه. ويشرح الفصل الثاني الأنموذج النظري كتعميم من حالة تاريخية هي الحالة الأوروبية، فكرة أنّ العلمنة نشأت فيما الأنظمة في أوروبا والولايات المتحدة التي تعدّ علمانية في عصرنا قامت من دون استخدام مفردة العلمانية، ولا حتى في صوغ الدساتير؛ مستنتجًا من هذا أنّ قيمة المفردة ليست قائمة بذاتها، بل في الاصطلاح عليها. ويمكن الاستغناء عنها إذا خشي المشرّعون من محمولاتها الأيديولوجية. وفي الولايات المتحدة عمومًا يتجنّب السياسيون وصف أنفسهم بالعلمانيين لأنّهم يروْن أنّ هذا الوصف يمسّ موقفهم "الإيجابي" عمومًا من الدين، أو من احترامهم الروحانية.
يتضمّن الفصل الثالث نماذج تاريخية عدة فصول؛ يعنى كلّ فصل منها بنموذج تاريخي مختلف لممارسة العلاقة بين الدين والدولة من طرف نظام الحكم، ويؤسّس المؤلف عبرها لنشوء التصورات المختلفة للنظام السياسي المعَلمَن، ومفهوم العلمانية في سياقات تاريخية مختلفة، من بينها فرنسا وبريطانيا، وذلك قبل مقارنتها بالولايات المتحدة في سياق عرض نظرية العلمنة ونقدها.
مع الفصل الرابع العلمنة ونظريات العلمنة، يبدأ القسم الثاني من هذا المجلد المتعلق بنظريات العلمنة ذاتها. وينطلق من مكانة هذه النظريات في علم الاجتماع وتأصيلها في سوسيولوجيا فيبر ومصطلحاتها. كما يتناول فهمًا نقديًّا مُبكّرًا ضدّ العلمانية بوصفها علمنة للثيولوجيا على شكل فلسفة للتاريخ؛ وما ينجم عنها من أيديولوجيات كلّانية تتبعها حركات شمولية وديانات سياسية بديلة.
وفي الفصل الخامس بين أوروبا وأميركا: واقع العلمنة ومساهمة إضافية في نقد أنموذج العلمنة ينتقل المؤلف إلى مناقشة أعمال الجيل الأحدث من منظّري العلمنة، عبر عرض معنى الصيرورات التي تؤكّدها نظريات الحداثة كالعقلنة والخصخصة والفردنة، كمكوّنة للحداثة. ويعرض توليد هذه الصيرورات لنقيضها، ثمّ احتواء النقيض الديني أو المحافظ وتكيّفه وتحوّله إلى عنصر في الصيرورة. ويتناول الفرق بين كون القرار الديني شأنًا خاصًّا، وعَدّ الدين كلّه شأنًا خاصًّا، أي حشره في المجال الخاص على الرغم من كونه ظاهرة اجتماعية.
أمّا الفصل السادس الديانة السياسية والديانة المدنية، فمخصَّص للتعريف بمفهوم الديانات السياسية وواقعها. ويبدأ باستخدام وصف الفلسفات والأيديولوجيات الكلانية بالغنوصية، بوصفها تمثّل امتدادًا للنزعة الغنوصية في معرفة الغيب؛ وذلك قبل تشخيص الأيديولوجيا الكلانية كدين بديل.
ويختم بشارة كتابه بعرضٍ لنموذجٍ نظري بديل في فهم العلمنة يقوم على استقراء التاريخ وتاريخ الأفكار، وعلى استدلالات من التعميمات المستقرأة، ومن المقاربة النقدية لنظريات العلمنة. وهو نموذج أكثر تركيبًا، واختباره الرئيس هو قدرته التفسيرية.