صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الصراع على تفسير الحرب والسلم: دراسات في منطق التحقيق العلمي في العلاقات الدولية، للباحث الجزائري سيد أحمد قوجيلي، يعرض فيه مستفيضًا أهم النقاشات النظرية الموجودة في العلاقات الدولية المعاصرة، وبشكل محدد أدوار ما يُعرف بالنقاش الثاني في نظرية العلاقات الدولية، بين النظريات الواقعية والمؤسساتية النيوليبرالية، والنقاش الثالث بين المقاربات الوضعية وبعد – الوضعية. كما يناقش منظورات متنوعة للشؤون الدولية، تمثّل منظورات متنافسة ومتضاربة؛ فهي تنقسم، من حيث شكلها العام، إلى عالمين: عالم الصراع (منظور كطريق إلى الحرب) وعالم التعاون (منظور كدعامة للسلام).
النظرية وتقويمها
يتألف الكتاب (448 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من أربعة أقسام. في القسم الأول، بناء النظرية وتقويمها، فصلان.
في الفصل الأول، النظرية والقانون ومنطق السببية، يجد الباحث أن اختصاص العلاقات الدولية قطع طريقًا طويلة نحو إنجاز النظرية العلمية. وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى إجماع حول مدى علمية هذه المعرفة أو نتائج هذا المشروع بشكل عام، "فإننا بتنا على يقين تام بأن فهمنا الشؤون الدولية تحسّن كثيرًا في العقود الخمسة الأخيرة، بفضل المعرفة النظرية المحصلة عن فواعل السياسة الدولية وارتباطاتها ودينامياتها". وبحسبه، تساهم النظرية في تبسيط التعقيد الكثيف الذي تتسم به البيئة الدولية، وتساعد في ملاحظة أبعادها المتشابكة وتصنيفها، وتمكّن من متابعة الانتظام والتكرار في الظواهر الدولية، وتعزل العالم الواقعي للتعامل معه منهجيًا، وتخضع الحقائق للاختبار من أجل التحقق من صحتها إمبيريقيًا.
في الفصل الثاني، توماس كُون أم إيمري لاكاتوش؟ الثورة والاستمرارية في نظرية العلاقات الدولية، يقول قوجيلي إن استخدام براديغم كُون أو برامج بحث لاكاتوش لا يخلو من التحديات؛ فلا يزال كثير من الباحثين في العلاقات الدولية يتحفظون عن تطبيق مقارباتهما على الاختصاص، ولأسباب عدة، تراوح بين الاعتقاد أن المنهجين أصبحا من الماضي، أو غير قابلين للتطبيق على العلوم الاجتماعية، أو يحرضان على هيمنة البراديغمات أو حروبها غير المنتجة. والأهم من ذلك، لا يوجد معيار موضوعي للمفاضلة بين المقاربتين حيث إن استخدام أحدهما من دون الآخر يبقى منوطًا باقتناع الباحث واختياراته الذاتية. بيد أن شيوع استعمال المقاربتين بدائل بعضهما من بعض لا يعني أن ليس هناك إمكان لتوليفهما معًا في إطار نظري موحد.
في نظرية الحرب
في القسم الثاني، الصراع في السياسة الدولية، أربعة فصول.
في الفصل الثالث، نظرية الحرب: صعود الدراسة العلمية للنزاعات الدولية، يستنتج الباحث أن لا سبب وحيدًا للحرب، ومن ثم لا نظرية وحيدة لتفسيرها، بل هناك أسباب كثيرة ونظريات عدة. فالحرب تحدث بسبب الخصائص القومية والإجراءات التضليلية والتَّماس الجغرافي وحالات التنافس المستدامة وسباق التسلح والنظم الأوتوقراطية وترتيبات قطبية معيّنة وأنماط التحالفات وانتقال القوة وحرب الهيمنة. كما هناك أسباب أخرى مثل توازن القوى ودورة القوة وفشل الردع وانهيار المساومة والدورات الاقتصادية، إلى جانب المسببات السيكولوجية والدوافع.
يقول قوجيلي في الفصل الرابع، أسباب الحرب في النظرية الواقعية، إن الواقعية المعاصرة تُرجع أسباب الحرب إلى البيئة الأناركية التي تعيش فيها الدول ويتفاعل فيها بعضها مع بعض. وأدرك الواقعيون الكلاسيكيون نتائج العيش في الأناركية لكنهم لم يمنحوها دورًا سببيًا مستقلًا في نظرياتهم. بدلًا من ذلك، ركزوا على دور روح السيطرة المتجذرة في أعماق الطبيعة البشرية في إنتاج معظم النتائج التي أحالها الواقعيون البنيويون إلى البنية الدولية الأناركية. ويركز الواقعيون الكلاسيكيون أيضًا على دوافع الرغبة في القوة عند الرجال وانعكاسها على سعي الدول إلى تحقيق الحد الأقصى من القوة. وصنف الكلاسيكيون الدول طبقًا لمصالحها إلى قوى الوضع الراهن والقوى التعديلية، حيث يفسر التفاعل بين هذين النوعين من الدول معظم المخرجات المشتقة من منطق الأناركية، خصوصًا السعي إلى الأمن/القوة وحدوث الحرب والتوسع.
نسبية أو مطلقة؟
يتطرق المؤلف في الفصل الخامس، الواقعية النيوكلاسيكية: النظرية الصاعدة للسياسة الخارجية، إلى المعالم الأساسية في تعريف الواقعية النيوكلاسيكية كتيار أو توجه جديد في النظرية الواقعية، وكمدرسة صاعدة للسياسة الخارجية. وهذه الواقعية تعرض نفسها إكمالًا للواقعية الكلاسيكية والواقعية البنيوية، وتصحيحًا للنقائص الموجودة فيهما، اقترحت نفسها في اختصاص العلاقات الدولية توليفًا بين الثراء الفكري في الواقعية الكلاسيكية مع الصرامة النظرية الموجودة في الواقعية البنيوية، وبمعنى آخر، هي عبارة عن توليف بين الفكر الواقعي والنظرية الواقعية. كما أسست نفسها أيضًا أطارًا نظريًا يدمج المتغيرات المحلية مع المتغيرات البنيوية لإنتاج نظرية أكثر تطورًا من أجل تفسير السياسات الخارجية للدول.
في الفصل السادس، المكاسب النسبية في مقابل المكاسب المطلقة: هل التعاون ممكن في السياسة الدولية، وجد المؤلف أن الجدال الدائر حول المكاسب النسبية/المطلقة كان أهم محاور النقاش النظري بين الواقعية والمؤسساتية النيوليبرالية في سبعينيات القرن العشرين، "وعلى الرغم من أن النقاش لم ينتهِ إلى إجماع نهائي بين مؤيدي كلتا النظريتين، فإنه أسس القواعد لأرضية مشتركة في طريقة مقاربة الموضوع؛ فما عاد التعاون صعبًا أو مستحيلًا في ظل القيود البنيوية المفروضة بالبيئة الأناركية التي تتفاعل فيها الدول، وما عادت الاعتبارات الأمنية المتغيرَ الحاسم في تقرير طبيعة الترتيبات التعاونية. وأصبح التعاون ممكنًا وضروريًا لأن الدول تفضّل الربح المطلق على الخسارة النسبية، وتبحث دائمًا عن المنفعة الأحادية بدلًا من التكاليف الثنائية. في المقابل، تبقى الدول حساسة دائمًا تجاه الأرباح التي يجنيها الطرف الآخر من التعاون، وبغضّ النظر عن النتائج الأمنية التي تفرزها البيئة الأناركية، تظل الدول غيورة على مكانتها الدولية التي ربما تتأثر بالزيادة اللاتماثلية للقوة الناتجة من المكاسب اللامتكافئة من التعاون".
التعاون الدولي
في القسم الثالث، التعاون في السياسة الدولية، أربعة فصول.
في الفصل السابع، صعود السياسة العالمية: العلاقات عبر القومية والاعتمادية المتبادلة، يرى قوجيلي أن أنموذج السياسة العالمية شكّل تحولًا مثيرًا في نظرية العلاقات الدولية، يجمله في نقاط ثلاث: الأولى هي أنه أثبت محدودية أنموذج تمركزية الدولة الشائع في الواقعية، وأبرز أهمية الفواعل غير الدول والحركات الاجتماعية عبر القومية، وأعاد الاقتصاد السياسي الدولي إلى مركز التحليل الحقلي؛ والثانية أنه بيّن أن الاعتمادية الدولية يمكن أن تكون قاعدة لتأسيس الترتيبات التعاونية السلمية، لكن تبقى علاقات القوة مسيطرة بين الدول نتيجةً للتبعية غير المتماثلة بعضها بين بعض والتي من شأنها أن تؤثر في موازين القوى على المدى البعيد؛ والثالثة هي أنه بيّن أن عالم الشؤون الدولية أكثر تعقيدًا ممّا تفترضه المنظورات الواقعية التبسيطية والاختزالية، وأن المتغيرات السببية يمكن أن تتعدد وتتنوع، فتراوح بين تأثير المؤسسات الدولية والاعتمادية وعلاقات السوق والمعايير والقيم الليبرالية.
في الفصل الثامن، المؤسساتية النيوليبرالية وبنية التعاون الدولي، يقول المؤلف إن المؤسساتية النيوليبرالية في نظرية العلاقات الدولية تمثّل المقاربة النظرية التي تؤكد إمكان التعاون في السياسة العالمية، وتركز على دور المؤسسات والمعلومات في إنشاء الترتيبات التعاونية. وعلى الرغم من أن المؤسساتيين النيوليبراليين يقرون بأن النسق الدولي يتسم بالأناركية والمنافسة الأمنية، فإنهم يؤكدون في الوقت نفسه أن هذه السمات لا تؤثر في إمكان إنجاز التعاون الدولي، وأن التشاؤم الذي يميز التحليلات الواقعية بشأن الموضوع لا ينتج بالضرورة من فرضياتها، ولا سيما الأناركية.
تكامل وسلام
في الفصل التاسع، مابعد الوظيفية واليد الخفية للاندماج: إعادة "السياسي" إلى نظرية التكامل الإقليمي، يرى قوجيلي أن الدولة أكثر مرونة ممّا يفترِض المتنبئون بزوالها، وأنها قادرة على تجديد نفسها وإعادة إنتاج الميكانيزمات التي تمنحها القدرة على التكيف مع الأوضاع المستجدة. إن استمرار الدولة وإصرارها ينعكسان في استمرار النظرية الواقعية وإصرارها؛ فلطالما أشار الباحثون إلى أن الواقعية هي في الأساس نظرية الدولة. ولا غرابة في أن أي انتكاسة للدولة كانت تُرى انتكاسةً للواقعية مثل انتقادات النيوليبرالية في سبعينيات القرن العشرين. ولا غرابة أيضًا في أن أي نجاح للدولة يُرى نجاحًا للواقعية، وهذا ما جعل كثيرًا من الواقعيين اليوم في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية يحتفلون، في شبه خيلاء نيومركنتيلي، بعودة الدولة إلى دورها المحوري في تنظيم الاقتصاد العالمي وإدارته.
في الفصل العاشر، السلام الديمقراطي: لماذا لا تحارب الدول الديمقراطية بعضها بعضًا، يرى الباحث أن نظرية السلام الديمقراطي أثبتت نفسها أحد الاتجاهات الرائدة في نظرية العلاقات الدولية المعاصرة. ويجادل الليبراليون في أن النظرية تستطيع تفسير السياسات الخارجية للدول الديمقراطية والليبرالية بكفاءة لا تستطيع البدائل النظرية الأخرى مجاراتها فيها. وتدّعي النظرية أن الدول الديمقراطية لا يحارب بعضها بعضًا بسبب تقاسمها المعايير السياسية والاجتماعية ذاتها، وتفاديًا للتكاليف المادية أو السياسية المرتفعة الناجمة عن هذه الحرب. لكن على الرغم من ذلك، يدرك أنصار السلام الديمقراطي جيدًا القيود والحدود التفسيرية لنظريتهم، خصوصًا في ما يتعلق بندرة العيّنة الاختبارية وتأثيرها في قابلية تفنيد النظرية.
الفهم والمعنى
في القسم الرابع، الفهم والمعنى في السياسة الدولية، فصلان.
في الفصل الحادي عشر، مابعد نظرية العلاقات الدولية: المقاربات النقدية وبعد الحداثية، يقول قوجيلي إن دخول المقاربات النقدية وبعد الحداثية إلى النقاشات البراديغمية أدى إلى ثلاثة تأثيرات حاسمة في نظرية العلاقات الدولية: أولها، تحوّل المسلّمات العقلانية داخل النقاش الثاني بين التقليدية والسلوكية وكذلك الواقعية والليبرالية، وهو التحول الذي تركز في شكله العام على القضايا الإبيستمولوجية والمعيارية، في شكل الانتقال من الادعاءات الوضعية بشأن تحري الموضوعية والحياد العلمي، وإمكان بناء معرفة خالية من القيم، نحو تأكيد تعذّر فصل الذات عن الموضوع، وتشريح ارتباط المعرفة بقوة منتجها ومصلحته، وعلاقات الإقصاء والتهميش في المعرفة المشرعة بالنظام القائم؛ وثانيها تشجيع الخلفية النقدية للمقاربات النقدية وبعد الحداثية الباحثين على تجاوز هيمنة مفاهيم المعرفة السائدة للنظريات العقلانية، ودفعهم نحو كشف الأهداف المخفية للادعاءات العلمية، والممارسات المتحيزة وغير البريئة في الانتقاء من النظرية السياسية؛ وثالثها نضج ثمرة التوجهات النقدية إلى إعادة ترسيم حدود الاختصاص وتوسيع النقاشات النظرية من القضايا الأنطولوجية إلى القضايا الإبيستمولوجية والمعيارية.
في الفصل الثاني عشر والأخير، البنائية في العلاقات الدولية: السياسة العالمية بوصفها بناء اجتماعيًا، يرى الباحث أن البنائية تمثّل المقاربة التي تهتم بالبناء الاجتماعي للسياسة العالمية، التي تركز على دور البنى المثالية في تشكيل الفعل، وتبرز التكوين المتبادل للفواعل والبنى الاجتماعية. وهي تعتمد وجهة نظر نقدية تجاه العالم والعملية والمعرفة، جعلت مؤيديها ونقادها يصنفونها في معسكر المقاربات النقدية للنقاش الثالث. وعلى الرغم من احتمال أن يكون هذا التصنيف غير دقيق من الناحية الشكلية، فإن البنائيين لا يدّعون بناء نظريات علمية تفسيرية أو الوصول إلى حقائق كبرى بشأن السياسة العالمية، بل يتواضعون كثيرًا في ادعاءاتهم النظرية.