صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب خليل قويعة العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية النظر)، ويتناول فيه مفهوم النظر في ثقافة الفكر الجمالي، والعمل الفني نفسه بين النظر والنظرية، ودور النظر في التأسيس الأنطولوجي للعمل الفني، وما يترتب عن النظر عندما يصبح معرفةً وفكرًا. فعندما يصنع المفهومُ العمل الفني، يؤكد قدرة النظر على أن يَصنع النظرية، لأنه ما عاد مكتفيًا بالإبصار، بل يشمل أيضًا عمليات إنتاجية وذهنية داخل الآلة العصبية، على نحو ما ظهر في نظريات الإدراكيين، أو في مخابر فيزيولوجيي العين والجهاز العصبي، أو حتى في نظرية اللون والضوء.
يقع هذا الكتاب (399 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في ثلاثة فصول، يرى قويعة فيها أن العمل الفني المعاصر ما عاد حكرًا على عبقرية المبدع الأصلي، بل يستمد مقومات وجوده من عرضه أمام الجمهور، ما يجعل من النظر والمشاهَدة والمشاركة أفعالًا من صميم الاشتغال الإبداعي الذي يكُون العمل الفني من خلاله عملًا فنيًا. فالجمهور كفَّ عن أن يكون متقبلًا عرضيًا إلى حد القول إن الناظر هو من يصنع اللوحة.
ثقافة النظر
في الفصل الأول، ثقافة النظر في ثقافة الفكر الجمالي، يطرح قويعة جملة أسئلة: على أي نحو يمكن إخراج موضوع النظر من هذا الكون الميتافيزيقي المختلط إلى مجاله المحسوس، حيث يكون العمل الفني شيئًا مرئيًا؟ أي كيف نسوق العمل الفني من كونه فكرة مجردة إلى حالة تؤسس له وجودًا أمام العين الباصرة، بل أمام عيني أنا أو عينك أنت، بالذات؟ بأي حال يمكن الناظر أن يتحرر من غطاء الفكر المجرد ليكون ذاتًا ترى العالم من لحم ودم وتستمع إليه وتلامسه، كما تصوغ صورته من خلال إدراكها له، داخل وضعية إدراكية ما؟ كيف ينشأ موضوع النظر في هذا التماس المباشر وهذا التفاعل المتبادل بين الذات والعالم، بما يجعل منه عملًا فنيًا؟ ويجيب قويعة متناولًا مفهوم النظر، وإنشائية الفكر في التاريخ، وميتافيزيقا النظر بين المرئي واللامرئي، ناقدًا النظرية التذهينية.
برأيه، القول إن العمل الفني ذهني يقاوم إمكانية مباحثة منزلته الأنطولوجية؛ فالبحث عن شرط وجود العمل الفني وهويته لا يستند إلى أساسه الفكري بل إلى مقوماته المحسوسة كعمل فني موضوع أمام النظر، كما أن ليس لفكرة العمل الفني من تعيّن إلا خارج المجال الذهني. ولو كان من الممكن أن نجد في الفكرة سبيلًا لتأكيد منزلة العمل الفني الأنطولوجية، لانتفى أي مبرر لعملية الإنجاز الفني، وبقيت الأعمال الفنية في شكل أفكار وتأملات خالصة.
إنشائية المرئي
في الفصل الثاني، إنشائية المرئي بين الذات والعالم، يبحث قويعة في مسألة العين العاكسة في تاريخية الفن، أو تحرير النظر، وفعل النظر في فلسفات الإدراك واستتباعاته الجمالية منتقلًا بين الخاصيات المحسوسة والموضوع المُدرَك ومظاهر التنزيل الذهني والرمزي للإدراك وحدود المقاربات العقلانية والذهنية وإنشائية النظر بين الجسد والعالم والإدراك بين التجربة الجمالية وإيقاع الحياة. كما يبحث في مسارات العين المصورة بين المعرفِي والجمالي متناولًا تفعيلية العين وتشكيلية الفضاء في الفن البصري – الحركي، ودينامية المشاركة (العينُ جَسَدٌ).
يقول: "ما عدنا نتحدث عن علاقة مواجهة بصرية بين ناظر ومنظور إليه، وما عاد المُشاهد أمام عمل فني يتأمله بصريًا ثم يصوغه ذهنيًا على مدى مسافة بين الذات والموضوع، بل أصبح المُشاهد في قلب الفضاء الحسي المخترق. ومن ثم، ما عدنا نتحدث عن مشاهدين يُشاهدون، بل عمّن يشاركون في بلورة البُعد الجسدي المعيش لهذه الفضاءات الفنية المخترقة ويشهدون على تجربة إحساسية؛ إذ وُزِّعت الإحساسية البصرية على شمولية إدراكية الجسد، عندما أصبح تَلمّسُ المكونات الحسية للعمل الفني مباحًا لدى المُشاهد، فضلًا عن المؤثرات البصرية والسمعية والروائحية، الموازية والمحتملة".
بين النظر والنظرية
في الفصل الثالث، العمل الفني في "عالم الفن" بين النظر والنظرية، يتطرق قويعة إلى مفهوم الفن بين التسمية والنظرية، باحثًا في ثنائية الفكر والإحساس (أي موقع للمعرفة النظرية في الفكر الجمالي؟)، وفي الفن بين التسمية والنظرية، والتأسيس النظري والمفاهيمي للتسمية (أو معنى الفن في "عالم الفن")، وفي التمهية الفنية لدى آرثر دانتو في ضوء إنشائية النظر متناولًا دواعي الفكر التحليلي (من اللغة إلى الفن)، والمقصدية والتأويل (أو ما بعد الإدراك المباشر)، وإنشائية المقصدية بين الفكر التجرُبي والفكر التاريخي، والمقصدية في النظر الفني لدى دانتو، ومنزلة المتلقّي بين دانتو وياوس، ورهان التأويل بين النظر والتمهية، وتمهية المبتذل (التأويل والتحويل)، والنظر الساخر- التمهية الفنية بين موضوع النظر ومشروع العمل.
ويدرس في هذا الفصل أيضًا دور النظر في التأسيس الأنطولوجي للعمل الفني متطرقًا إلى المقصدية والافتعال، وأصالة العمل الفني في "عالم الفن"، والوجود العلائقي والتاريخي للعمل الفني، والوجود الفعلي للعمل الفني (النظر بوصفه باعثًا أنطولوجيًا)، والمعرض بوصفه ترسيمًا أنطولوجيًا.
يختم قويعة هذا الفصل بالقول: "إن النظر إنشاء وتأسيس، وليس مجرد استقبال أو قَبول للمنجز الجاهز، مثلما أن الرؤية إبداع كما قال هنري ماتيس، والنظر مستمر".