صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب مروان قبلان سياسة قطر الخارجية: الاستراتيجيا في مواجهة الجغرافيا، الذي يتناول سياسة قطر الخارجية، ودورها الإقليمي، وجذور خلافها مع المملكة العربية السعودية بخاصة. وهي مسألة شغلت منطقة الخليج والعالم العربي، لما يقرب من ثلاثة عقود. تكمن أهمية الكتاب في أنه يسلط الضوء على حالةٍ تكاد تكون فريدة في السياسة الدولية؛ إذ تعمل دولة صغيرة على التغلّب على معضلتها الأمنية عبر القيام بأدوار كبرى في منطقة تتسم بالتنافس الشديد. كما يرصد التفاعل المثير بين بنية النظامين الإقليمي والدولي، وطموحات النخبة الحاكمة القطرية في تأدية دور مؤثر في السياسة الدولية. ويتناول أيضًا كيف تحولت قطر إلى قوة مراجعة في نظامها الإقليمي، وتمكنت، بدرجات متفاوتة من النجاح، من الدفع في اتجاه تغييرات عميقة فيه؛ على نحوٍ وضعها في حالة صدام مع جيرانها الأقوياء، خاصة السعودية، وكذلك مع إيران ومصر والإمارات، وجميعها قوى "ستاتيسكو". ومع أنّ أزمة الحصار أعادت التذكير بأهمية الجغرافيا، فإن قطر تمكنت مرة أخرى من استخدام استراتيجيات فعالة لتتجاوزها من دون تكلفة كبيرة.
من الاستقلال إلى الصعود
يتألف الكتاب (388 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من عشرة فصول. في الفصل الأول "قطر: من الاستقلال إلى الصعود"، يقول قبلان إن البيئة الإقليمية والدولية التي سادت خلال الفترة الفاصلة بين استقلال قطر ووصول الشيخ حمد إلى الحكم دفعت الدوحةَ إلى الالتحاق بالسعودية سعيًا وراء الحماية التي غابت مع خروج البريطانيين من المنطقة وتردّد الأميركيين في الحلول محلّهم. واقتربت قطر من السعودية أكثر بعد إطاحة شاه إيران، وإعلان جمهورية إسلامية ثورية تتبنّى تصدير نموذجها إلى الخارج؛ "إذ انضمّت قطر إلى باقي الدول العربية في الخليج، بقيادة السعودية، في ائتلاف إقليمي لمواجهة الخطر الآتي من الطرف الآخر من الخليج. طوال هذه السنين، كانت قطر جزءًا من إجماع دول المجلس على مواجهة خطر إيران وتأييد العراق في حرب الثماني سنوات ضدّها. لكن تغيّر هذا الوضع بشدّة بعد الغزو العراقي للكويت والهجوم السعودي على مركز الخفوس الحدودي، تسبب في تغييرٍ عميق في تصوّر قطر للتهديدات التي تواجهها، لتبدأ بعدها التخطيط لسياستها الخاصة بها والبحث عن أمنها بطرائق ووسائل مختلفة، الأمر الذي وضعها في حالة صدام مع السعودية".
ويذهب قبلان في الفصل الثاني "سياسة قطر الخارجية: تحدي التفسير"، إلى أن قطر تجد نفسها، بحكم الجغرافيا، واقعة بين قوتين إقليميتين كبريين، تتنافسان على الهيمنة في المنطقة؛ السعودية دولة الوضع القائم، وإيران الدولة الساعية للتغيير المتوافق مع مشروعها ونهجها الإقليمي، "وكان على قطر، التي تبحث عن دور إقليمي خاص بها بعيدًا عن هيمنة العملاقين الإقليميين، أن تتبنى استراتيجيات للتغلب على هذا الوضع الجيوسياسي الصعب، بحيث تحافظ على استقلالية قرارها في الحد الأدنى، وتحاول انتزاع دور إقليمي يلبّي طموحها في الحد الأعلى، من دون أن تعرّض وجودها للخطر، لأن كلا الجارين الكبيرين يرى أنّ الدور الذي تسعى له قطر محسوم من نفوذه ويهدّد مصالحه، إضافة إلى أنّ حجم قطر الصغير لا يسمح لها أصلًا، وفق هذه النظرة، بالفوز بأي دور أو نفوذ، في نظام إقليمي يحكمه منطق القوة والتغلب".
القفز على الجغرافيا
يخلص قبلان في الفصل الثالث، "القفز على الجغرافيا"، إلى أن النخبة القطرية، وفي إطار سعيها لتبنّي سياسة خارجية مستقلة وبناء دور إقليمي مؤثر، اصطدمت بواقع جيوسياسي لا تستطيع تغييره أو التحكّم فيه، من منطلق أنّ الدول لا تختار جوارها الجغرافي ولا بنية النظام الإقليمي الذي تعيش فيه. ويقول: "لكنها اكتشفت أيضًا أنّ في إمكانها ابتكار استراتيجيات من وحي التقدم الكبير في التكنولوجيا والأفكار (القوة الناعمة)، لتعظيم نقاط قوتها وتقليل نقاط ضعفها المتمثلة في وجودها بين قوى إقليمية أكبر منها. كما استفادت النخبة القطرية، في إطار سعيها للحفاظ على استقلالها، من المزايا التي تتيحها طبيعة النظام الإقليمي الذي تعيش فيه، والمتمثلة في إمكان الاستفادة من التناقضات الكبرى بين أقطابه، ومن قوة المقاومة الذاتية التي يبديها هذا النظام لهيمنة قوة إقليمية واحدة عليه أو امتلاكها من موارد القوة ما يخلّ بتوازناته".
وفي الفصل الرابع، "صراع المحاور في المنطقة العربية"، يكتب قبلان: "بعد أن ساهم غزو العراق في فرط عقد التحالف الثلاثي (مصر والسعودية وسورية) الذي ناصب قطر العداء خلال السنوات السابقة على الغزو، تشكل مشهد سياسي جديد قوامه محوران: محور الممانعة الذي ضمّ إيران وسورية وحزب الله وحركة حماس؛ ومحور الاعتدال الذي ضمّ السعودية ومصر والأردن والإمارات. في أجواء الاستقطاب التي تبلورت أكثر بعد اغتيال رفيق الحريري، ثم حرب تموز في لبنان، اقتربت قطر أكثر من محور المقاومة، من منطلق حاجتها إلى الحفاظ على التوازن الإقليمي الذي كان يمثل عامل ضمان رئيس لها في مواجهة الضغوط السعودية - المصرية؛ إذ بلغ الصراع بين هذين المحورين ذروته في حرب تموز، ودعمت قطر محور المقاومة سياسيًا ودبلوماسيًا في الأمم المتحدة، وإعلاميًا عن طريقة تغطية إيجابية لقناة الجزيرة، وماليًا عن طريق تعهد قطر بإعادة بناء ما دمّرته الحرب في جنوب لبنان. كما تبلور هذا الصراع خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر عام 2008".
جيوبولتيك الربيع العربي
يرى المؤلف في الفصل الخامس، "جيوبولتيك الربيع العربي"، أن الموقف من ثورات الربيع العربي، في مصر خصوصًا وإلى حدٍ ما في سورية، مثّل نقطة خلاف رئيسة بين قطر والسعودية؛ ففي حين دعمت قطر الثورات العربية، وجدت فيها السعودية خصوصًا (وإيران أيضًا في سورية) تهديدًا كبيرًا لأمنها واستمرار نظامها. بناء عليه، قادت السعودية، التي بقيت منذ نشأتها في عام 1932 تؤدي دور قوة الأمر الواقع الإقليمية الرئيسة، الحملةَ الهادفة إلى وقف موجة التغيير التي جاءت بها الثورات العربية، في حين برزت قطر خلال هذه الفترة باعتبارها قوة مراجعة في النظام الإقليمي. وكان هذا الصراع الجيوسياسي الكبير الذي خاضه البلَدان، على امتداد ساحات التغيير في المنطقة العربية، سببًا رئيسًا في اندلاع أزمة عام 2014، ومن بعدها أزمة عام 2017.
ويقول قبلان في الفصل السادس، "حسابات الربيع المؤجلة"، إن التحول في السياسة الخارجية السعودية اقترن بتوطيد سلطة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي نجح في تغيير الآلية التقليدية لصنع القرار، ومسك السلطات كلها، بعد أن كانت موزّعة بين فروع العائلة من أبناء عبد العزيز آل سعود. ويرى الباحث أن ولي العهد الجديد واجه التحديات السياسية الداخلية، ساعيًا لتعزيز أركان حكمه، فتحرك ضد الشخصيات الدينية التي قادت المعارضة السياسية في أوائل التسعينيات، وناصرت احتجاجات الربيع العربي ووضعها في السجن. وكانت هذه الشخصيات التي أصبحت شخصيات إصلاحية منفتحة، لا تزال في موقعها القيادي البارز في حركة الصحوة السعودية، وامتنعت عن دعمها قرار حصار قطر. وجاءت اتهامات الحكومة السعودية للمعتقلين، بأنهم يسعون لتقويض الأمن الوطني لمصلحة قوى خارجية، لتربط بين هذه الاعتقالات والنزاع مع قطر.
حليف بطعم الخصم
في الفصل السابع، "العلاقة مع واشنطن: حليف بطعم الخصم"، كان واضحًا للمؤلف أن سياسةً خارجية أميركية موازية بخصوص الأزمة الخليجية تُصنَع في البيت الأبيض، بعيدًا عن وزارة الخارجية، يقودها صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر، وكانت الاتصالات السعودية - الأميركية تمر تحديدًا من خلال قناة تصل مباشرة إلى البيت الأبيض عبر كوشنر نفسه، خصوصًا أنه لم يكن لدى واشنطن سفير في الرياض طوال أول عامين من إدارة دونالد ترامب، إلى أن عُيّن جون أبي زيد، القائد السابق للقيادة العسكرية المركزية للمنطقة الوسطى، سفيرًا لواشنطن في الرياض في نيسان/ أبريل 2019. وفي الوقت الذي كانت المصالح الشخصية والمالية تحدّد موقف كوشنر من قطر، كانت مواقف عناصر أخرى في إدارة الرئيس ترامب مدفوعةً بعوامل أيديولوجية؛ فقد أدّى كبير مستشاري الرئيس، ستيف بانون، دورًا مهمًا في رسم السياسة الأميركية تجاه أزمة الخليج، فرأى أنّ الولايات المتحدة منخرطة في صراع وجودي مع قوى الإسلام الراديكالي، ومن ثمّ يغدو التصعيد مع قطر، بزعم قربها من بعض التيارات الإسلامية، حتى لو كانت مصنفة معتدلة مثل الإخوان المسلمين، أمرًا مبرّرًا.
أما في الفصل الثامن، "أوهام القوة والحسم"، فيقول المؤلف إن مستقبل مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي كان يُعدّ من أكثر منظومات العمل الإقليمي العربي المشترك نجاحًا، غدا مطروحًا للتساؤل، "وجعل فشل الكويت في رأب الصدع في المنظومة الخليجية الذي بلغ ذروته في عجزها عن جمع قادة الدول الأعضاء في القمة الثامنة والثلاثين في الكويت، وذهاب السعودية والإمارات في اتجاه الإعلان عن إنشاء لجنة للتعاون والتنسيق المشترك خارج إطار المجلس، وبروز مواقف بحرينية تدعو إلى تعليق عضوية قطر في المجلس، إمكان استمرار المجلس محل شك كبير. ومنذ بداية الأزمة، بدأ يتشكل في إطار منظومة المجلس تمايز واضح بين تكتلين؛ يمثل الأول السعودية والإمارات والبحرين، وتنتظم في الآخر الدول التي تحاول الحفاظ على استقلالية قرارها، ولا سيما قطر وعُمان، بينما تحاول الكويت أن تكون على مسافة واحدة من الطرفين، على الرغم من وجود مخاوف تُعبّر عنها أوساط كويتية من تنامي نزعات الهيمنة لدى الدول الأكبر في المنظومة الخليجية تجاه الدول الصغرى".
مواجهات وتحديات
في الفصل التاسع، "استراتيجية قطر في مواجهة الأزمة الخليجية"، يؤكد الكتاب أن قطر استجابت سريعًا لجهود إنهاء الأزمة بعد أن أسقطت الرياض الشروط الثلاثة عشر التي كانت وضعتها أمام قطر للموافقة عليها. وكانت قطر ركزت منذ البداية على إحداث تغيير في الموقف السعودي، بمعزل عن باقي الأطراف؛ نظرًا إلى مكانة السعودية وأهميتها، وموقعها الجغرافي، وكون معبر قطر البري الوحيد يمرّ عبر السعودية. وحصل الاختراق الكبير في جدار الأزمة خلال الزيارة التي قام بها كوشنر إلى الرياض والدوحة في مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2020، حيث اتفق الطرفان على صيغة إعلان مشترك. وتولّت السعودية إقناع الدول الثلاث الأخرى بالموافقة عليه.
وفي الفصل العاشر والأخير، "تحدّيات السياسة الخارجية القطرية"، يختم قبلان بالقول إن التفاعلات الإقليمية والدولية تضع قطر أمام فرص وتحديات كبرى، تؤثر بقوة في سياستها الخارجية وفي خياراتها السياسية والأمنية، خصوصًا في ظل تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، الذي بات يشجع قوى إقليمية وعالمية على الدخول إليها؛ "فمنطقة الخليج لا تحتاج إلى من يُذكّر بأهميتها، والسياسة مثل الطبيعة لا تحب الفراغ، وإذا انكفأت قوة كبرى، بحجم الولايات المتحدة، عن مسرح مهم، في أهمية المسرح الخليجي، سيؤدي الغياب دور المغناطيس الذي يجذب إلى الفراغ كل ذي مصلحة. وشعور قطر بالتهديد، نتيجة ذلك، سوف يدفعها إلى التصرف بتلقائية المُهدَّد في أمنه ووجودِه، طلبًا للمعونة".