صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن "سلسلة ترجمان" كتاب الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة: عصر الإمبراطوريات الجديدة، الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين لألكسندر دوغين. وهو من ترجمة إبراهيم إستنبولي ومراجعة إسكندر الكفوري، ويشتمل على فهرس عام.
يبحث الكتاب في قضايا الجغرافيا السياسية عمومًا، وقضاياها لما بعد الحداثة خصوصًا، ويتناول أهم المراحل في تطور علم الجغرافيا السياسية، ويتطرق إلى النظريات والتيارات الرئيسة في هذا العلم. ويبحث بعمقٍ وتفصيلٍ السمات الأساسية للمرحلة الحالية من التاريخ المعاصر؛ حقبة العولمة الأحادية القطب، ومحاولة الولايات المتحدة الأميركية تعزيز هيمنتها على العالم، ومتطلبات ومآلات الجهود التي تبذلها بعض الدول من أجل عرقلة العولمة الأميركية الأحادية القطب وقيام عالم متعدد الأقطاب. ويشرح أيضًا سعي روسيا والصين ودولٍ أخرى لإقامة تحالف أوراسي بوصفه مشروعًا بديلًا أو موازيًا للعولمة الأميركية.
ما بعد الحداثة: الغرب والشرق وروسيا
تتأسس ما بعد الحداثة على فرضية مفادها أنّ تحديث المجتمع التقليدي انتهى بنجاح، وأنه لم يعد ثمة وجود لبُعد المقدَس في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهذا هو واقع الحال في الغرب أو قريب من ذلك. لقد بلغت هيمنة الغرب على كوكب الأرض حدًّا بعيدًا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، ونحن أمام وَهْمٍ كامل بأنه جرى دمج ناجح لكل النخب الإقليمية من البشرية غير الغربية في سياق "الحداثة". وقد جرى رصد ظاهرة مثيرة للاهتمام في هذه الظروف: يفوّض الغرب بالتدريج الأخبار المتعلقة بـ "ما بعد الحداثة" إلى النخب غير الغربية؛ وهذا يعني تحديد مساحة أنموذجية جديدة مدعوّة لأن تحلّ تدريجًا مكان القواعد والأنظمة "الحداثية"، وذلك بعد أن يجري حرمان المجتمعات غير الحديثة بدرجة كافية من ملامحها التقليدية بصورة فعالة ونهائية.
يمكن التمييز بين خطّين رئيسين في "ما بعد الحداثة" الروسية. الخط الأول "استعماري" بحت، وهو ليس سوى "ما بعد حداثة" غربية جرى تطبيقها في روسيا بوساطة نخب فكرية "كمبرادورية"، وكان مطلوبًا منها أن تخلق شعاعًا أو ناقلًا صريحًا لعملية التحديث المتسارع، حيث يجري تفكيك كل ما كان في جوهره "غير حداثي" في "الحداثة الروسية الزائفة" بوتيرة سريعة. وعلى هذا النحو، قامت ما بعد الحداثة بدور المؤشر والناظم لصحّة المسار التحديثي. وكانت ما بعد الحداثة في روسيا، من حيث وظيفتها في تسعينيات القرن العشرين، شكلًا من الكولونيالية المفرطة. وفرض هذا الاستعمار المفرط "نهاية التاريخ المُنجَزة" في الغرب بالقوة، وبطريقة عنيفة، على البلاد التي كان تاريخها، في مجمله، موجّهًا من أجل التخلّص والهروب من هذا المنطق (بل ربما دحضه).
أما الاتجاه الثاني في ما بعد الحداثة، فيطوِّر ما سبق ورُمِي على أعتاب العصر الحديث، أي ما قبل الحداثة بعد أن جرى تحويلها ومنحها وجهًا جديدًا. هذه نظرة ساذجة ومقدّسة، وهي تشكِّل خلفية للوجود البشري، لمنطقة اللاوعي لديه، ولطبيعته المادية، ولما هو قديم جدًّا بعامة. وفي الجوهر، يدور الحديث حول أنه نتيجةً لعملية من نوع "التنظيف بالفراغ" (Nettoyage par le vide) (يعود هذا المصطلح إلى جان بارفوليسكو)، أساس الثقافة البشرية، تبدأ بالظهور ملامح قديمة رئيسة. ويحمل هذا في طياته احتمال أن يدعى ذلك "عودة العصور العظيمة" (Le retour des Grands Temps) (المصطلح يعود إلى جان بارفوليسكو أيضًا وهو عنوان روايته الأخيرة) وتعني هذه العبارة العودة إلى ما قبل الحداثة، وإلى إعادة تقويم كل ما سبق أن جرى التخلّص منه ورميه عند أعتاب الحداثة. وهنا نحن نقترب حثيثًا من موضوع الإمبراطورية. ذلك أن فكرة الإمبراطورية سبق أن وقع تجاهلها على أعتاب العصر الحديث، تحديدًا مع البدء في تأسيس الدولة البرجوازية - الأمة (Etats-Nations). فالإمبراطورية من حيث الجوهر تنتمي إلى ما قبل الحداثة، وهي تَبْسط توازنها بين الفردية والشمولية، وحيث إن هذا التوازن يقوم على موقف قديم جدًّا من علم الوجود ومن المجتمع ومن الثقافة.
وهكذا، فإن ما بعد الحداثة عمليةٌ ختامية للحداثة من ناحية، وتؤكد وتْرها الأخير كحادثة عدمية مفرطة، ومن ناحية أخرى، تفترض إدخال عناصر قديمة جدًّا في المنطقة التي سبق أن أحرقتها الحداثة. ثمّ إنّ ما بعد الحداثة تطرح أسئلة كانت خلال مرحلة العصر الحديث برمّته غير صالحة سياسيًا.
العولمة وخياراتها
تعني العولمة عادة شيئين مختلفين، ولذلك ينشأ مثل ذلك الخلط في المفاهيم. التعريف الأول للعولمة (العولمة الفعلية أو الحقيقية) هو أنها عملية تجري على أرض الواقع، من أجل فرض الصيغة الاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية والمعلوماتية الغربية، على جميع دول العالم. ويشرف على تحقيق هذه العولمة "الشمال الغني" (بلدان حلف شمال الأطلسي "الناتو") و"المليار الذهبي"، وهي موجهة من أجل تعزيز سيطرة هذه الدول على العالم. إنها شكل من "الاستعمار الجديد". "الأثرياء" يتحكمون في "الفقراء"، والأكثر تطورًا يتحكمون في من هم أقل تطورًا؛ وهذا يؤدي إلى فقدان الشعوب والبلدان النامية لما تبقى لها من "سيادة"، ومن ثم لا يبقى أمامها سوى أحد خيارين: إما أن تندمج في النظام العولمي، أو أن تصبح بلدانًا "منبوذة"، مارقة، "محور الشر".
تصرّ هذه العولمة، من الناحية الاقتصادية، على ضرورة تبنّي النمط الليبرالي للاقتصاد في كلّ مكان، إلى جانب سياسة نقدية راديكالية، واعتماد المذهب المالي (تطوير سوق الأوراق النقدية وشركات رأس المال الاستثماري وغير ذلك). أما من الناحية السياسية، فتؤكد العولمة الحقيقية ضرورة ترسيخ نظام ليبرالي ديمقراطي وعلماني على نطاق واسع وشامل، وسيطرة أيديولوجية "حقوق الإنسان" و"المجتمع المفتوح"، و"المجتمع المدني"؛ وهذا ما يقود بالتدريج إلى إلغاء مؤسسة الدولة وإدارات السلطة في مختلف البلدان.
أما التعريف الثاني للعولمة، فهو العولمة المرتقبة أو المحتملَة أو "الإنسانية" - عبارة عن مشروع نظري بحت ينتشر في الدوائر الإنسانية (غالبًا "اليسارية"، والبيئية والعِلمَوية وغير ذلك) في البلدان المتطورة. يُنظَر إلى العولمة الإنسانية على أنها تطوير للحوار بين الثقافات والحضارات، بعد انتهاء الصدام في عالم ثنائي القطب. فبهذا المعنى، يمكن أن تُفهَم "العولمة" على أنها "تبادل عالمي للخبرة" وحوار مكثّف بين أطراف فاعلة مختلفة، وليس على أنها فرض الغرب لنمط اقتصادي وثقافي وسياسي ومعلوماتي وقيمي على بقية شعوب العالم وبلدانه. وإن مثل هكذا عولمة تفترض سلفًا التخلّي عن النهج "الكولونيالي" ("العنصري") واستئصاله. وهي تسعى لأن تمنح مختلف الشعوب الحرية في اختيار طريق تطورها التاريخي والثقافي.
وتتيح العولمة الإنسانية أيضًا التنوع في النظم الاجتماعية – السياسية والاقتصادية، وهي ذات طابع سلمي وتقود إلى إزالة السلاح النووي في البلدان كافة بما فيها الولايات المتحدة، أو أنها تسمح (في مرحلة انتقالية) بنشوء عدد من الأقطاب النووية التي يحدّ بعضها بعضًا، وربما يمكن تسميتها عولمةً متعددة الأقطاب، بخلاف العولمة الأحادية القطب.
وبالنسبة إلى روسيا، من الأفضل والأجدى أن تشغل موقعًا مناهضًا للعولمة، من خلال نسخة مخففة من "العولمة الإنسانية"، وليس من خلال موقف راديكالي ومتطرف. وما هو أكثر جدوى هو أن تعلن روسيا عن دعمها والتزامها "عولمةً متعددة الأقطاب أو إقليمية".
الجغرافيا السياسية للغاز
عندما نتحدث عن الجغرافيا السياسية للغاز، إنما نتحدث عن مدى انسجام وتوافق منظومة الإمداد بالغاز، وإنتاج الغاز، إضافةً إلى نقله وتسويقه، مع أنموذج جيوسياسي معيّن. وإذا ما تأملنا اقتصاد أوراسيا بطريقة مجرّدة، من وجهة نظر اقتصادية بحتة من دون تحميلها أيّ اعتبارات، فإننا سنرى أن توازن سوق الغاز كان سيقود إلى تطور سريع متناغم وثابت لتلك الفضاءات الأوراسية. دعونا نتخيّل أنّه ما مِن أسباب سياسية تعيق روسيا عن إمداد أوروبا والصين وتركيا أيضًا بالغاز. وبفضل مثل هذه المقاربة النظرية البحتة لاقتصادات تلك البلدان، وخصوصًا اعتماد اقتصادَي أوروبا والصين على الطاقة، ومع الأخذ في الاعتبار أن الاقتصادَين كليهما نشطان وفاعلان على نحو طبيعي، فإنَّ كليهما سوف يحصل حينئذ على قاعدة مستقرة من أجل تحقيق تنمية مكثفة وقوية وثابتة؛ أي إنه سوف تظهر لديهما ضمانات للمستقبل.
الإرهاب: هراطقة القرن الحادي والعشرين
إنَّ التعامل مع ظاهرة الإرهاب، على أنها تشكِّل خطرًا عالميًا (شيطنتها)، هو سمة مميزة للأساطير المنتشرة في المجتمعات الليبرالية الديمقراطية من النمط العلماني. وهنا تتجلى خصوصية النظام السياسي في حدّ ذاته في تلك المجتمعات؛ حيث يجري تصوير شخصية الإرهابي، من الناحية النفسية والسياسية، وتصنيفها في تلك المجتمعات باعتبارها تجسيدًا لـ "الآخر" و"الغريب" و"العدو". الإرهابي هو أنموذج مثالي للتمييز الاجتماعي، للمنبوذ والطريد. فضلًا عن أنّ جميع المكونات في الإرهاب، سواء سياسية أو جيوسياسية أو سيكولوجية، تنتمي إلى مركّب الشروط التي نُقِلت على نحو صارم إلى خارج قوس المعايير الاجتماعية.
وبالتزامن مع النجاحات التي تحققها العولمة التي ينفذها القطب الأطلنطي، وما يرافقها من منظومة ليبرالية للقيم، سوف تتطور بالتدريج الفئة التي تصنّف على أنها إرهابية، وستنتشر لتشمل كل المجموعات الاجتماعية السياسية والدينية ومختلف الجماعات الإثنية، وحتى أنماطًا نفسية محددة، تلك التي لا تندمج ولا تتسق مع الأنموذج الليبرالي الديمقراطي للحضارة. وفي حال راحت التيارات الأحادية القطب تتطور لاحقًا على حساب التوازن الجيوسياسي، فإنَّ مفهوم الإرهاب الدولي قد يصبح مقولة اجتماعية وسياسية وحضارية مستقلة.