صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ترجمان"، كتاب تشكّل الدولة الحديثة -الإمبراطورية العثمانية من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر Formation of the Modern State: The Ottoman Empire, Sixteenth to Eighteenth Centuries، وهو من تأليف رفعت علي أبو الحاج وترجمة محمود محمد الحرثاني، ويتألف من مقدمة وصلب الدراسة وخاتمة، ملحقةً بتذيل تحت عنوان "فذلكة: التنظير أبعد من إطار الدولة – الأمة" يدحض فيه المؤلف نموذج الدولة – الأمة بوصفه القضية المحتمة للتاريخ الحديث ودحض فكرة "نهاية التاريخ". وتأتي في الأخير ملاحق أربعة، تتناول جميعًا بالبحث التاريخ العثماني الوسيط وما اعتراه من أحداث مفصلية وتغيرات مجتمعية، ونقد التأريخ العثماني والشرق أوسطي بشقَّيه الغربي والشرقي، ومصاعب البحث في الصورة النمطية السائدة في الكتابات التاريخية. يقع الكتاب في 240 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
هذا الكتاب عملٌ إمبريقي عن الحقبة الوسيطة في التاريخ العثماني: مرحلتَي التأسيس والتوطيد الأولى و"الإصلاح" و"التحديث" الثانية، وهي حقبة في الإمكان تبيّن معالم تحولاتها - ولو حصرنا التقصّي في المصادر العثمانية - المتولِّدة داخليًّا بتأثير من حاجات المكونات المجتمعية العثمانية أكثر منها بسبب الضغوط الخارجية.
وإذ يعقد الكتاب مقارنات تاريخية بالمجتمعات الصينية والمغولية لتعريف القارئ إلى العمليات التاريخية العثمانية في التاريخ الحديث، فقد كانت من بين النقاشات الأكثر إفادة تلك التي دارت في "حلقة الأربعاء الدراسية" بين مجموعة مؤرخين في جامعة نيويورك.
متابعة التقويم النقدي للتأريخ العثماني
يرتبط التقليد النقدي للتاريخ الشرق أوسطي في هذا الكتاب بأسماء مثل إدوارد سعيد ومكسيم رودنسون وغيرهما، الذين حاولوا في زمرة من المفكرين إعادة التقويم النقدي للتاريخ العثماني، بعد أن صوِّرت الدولة والمجتمع العثمانيَّان ذَوَيْ بنى بدهية جامدة وتشكلات فكرية ثابتة لا جدال حولها، في نظرة ساذجة وصادمة إلى الواقع في دراسات كانت قمة الرضى عنها أن يجري تفكيك رموزها وإخراجها إلى الباحثين نصًّا متوافرًا ومتاحًا، مع إغفال أسباب كتابة نصها وسياقه غير الواضح.
في إطار "الدولة-الأمة" الذي يسيطر حتى على تفكير المؤرخين الذين يتعاملون مع تاريخ مناطق واسعة جدًّا على هذا الكوكب، يرى المؤلف أننا نلقى صعوبة في معرفة الكيفية التي فهم بها السياسةَ أناسٌ عاشوا في دولة نجزم أنها لم تكن أبدًا دولة قومية، مع إصرارنا على مواصلة الانزلاق المُخاتِل إلى تفسيرات ليست ذات معنى إلا في إطار دولة بيروقراطية. وبناء عليه، فإن تقويمنا للوثائق العثمانية الناقصة عادةً، وضعْفَ إحاطتنا بأسباب تأليفها يعودان إلى سببٍ آخر غير الإهمال. ولأجل الإشارة إلى نقاط الضعف في معالجة هذه الأمور، كان الكتاب، الذي يحثُّ القارئ على تجاوز المعايير البيروقراطية التسطيحية حين يُقَوِّم المادة الوثائقية، ضاربًا مثالًا من فيلم "راشومون" الياباني، الذي أراد مؤلفه ومخرجه إيصال فكرة إلى ذهن المشاهد مفادها أنه عندما يكون الواقع مركبًا ومعقدًا جِدًّا فإن الحقيقةَ تصبح متعددةَ الوجوه؛ ولذلك فإن الاستفادة من الأخطاء ومواجهتها لأجل تقدُّم اختصاصنا أرجى نفعًا من مواصلة تكديس الحقائق والمعلومات من دون نقدٍ.
إن فكرة اعتبار التاريخ العثماني فرعًا من فروع التاريخ، ودراسة تشعبات ديناميات المجتمع العثماني من دون أي اقتراض ثقافي، مقترحان يبدوان معقولَين بعد مضي ما يقارب الثمانين عامًا على وفاة مارك بلوخ، كما أن الدعوة إلى معالجة مقارِنة لتحديد مكانة الإمبراطورية العثمانية في العالم ليست أمرًا مستهجنًا؛ فعلى سبيل المثال حين كتب بروفيسور ألماني في ستينيات القرن العشرين أن القيادتَين السياسيتين في ألمانيا القيصرية والنمسا الهابسبورغية قد خاطرتا حين شاركتا في الحرب، فإن نسبة الواقعية والمعقولية في قوله كبيرة، وعلى الرغم من استهجان البيئة الأكاديمية الألمانية لما كتبه، فإنه كان أبعد ما يكون من الطروحات المبتذلة. ربما ما سيحدث في هذا الكتاب سيكون في نظر المؤلف مشابهًا، فالعنف المصاحبُ للبوح، في رأي ما، قد لا يتوافق مع الضرر المتأتّي منه، وهي حقيقة تدلّ على البيئة الأكاديمية الوحيدة التي أسّسناها وعلينا العمل فيها مع "الحواجز الصوتية" الغاضبة لأقراننا الأكاديميين في وجه آرائنا المعتدلة، والتي نتعامل معها بارتياب غريزي كبير، لكنه ليس أكبر من ارتيابنا في آراء راسخة كنا قد استوعبناها واستساغها زملاؤنا.
فحوى الدراسة
من زاوية أخرى، يمكن اعتبار الكتاب دعوةً إلى تفسير تعقيدات المصادر، اقتداءً بمؤرخي العصور الوسطى أو الحديثة، من دون أن يعني ذلك نقل المفاهيم بلا نقاش من موقع ثقافي إلى موقع ثقافي آخر. فافتراض إمكان ذلك النقل ناتج من إدراك المؤلف، من دراساته المكثفة للنصوص العربية والفارسية والتركية، أن الافتراضات الثقافية الأساسية ليست بالضرورة هي نفسها التي سادت أوروبا النهضة والشرق الأوسط.
ويورد المؤلف مثالًا على المخاطر التحليلية للمقارنات المتعجلة: استحسن السفير دي بوسبيك de Busbecq استمداد المسؤولين العثمانيين مكانتهم من خدمتهم السلطان أكثر من كونهم أشرافًا، فنزع بذلك إلى إغفال الفروق العملانية والتشابهات. فسؤدد كبار موظّفي دولة آل هابسبورغ كان وراءه خدمة الإمبراطور، ولكن ليس بالمستوى نفسه في الإمبراطورية العثمانية؛ فأبناء الأسر الأوروبية النبيلة كانت لهم موارد مالية خارجة عن سيطرة الحاكم، في حين لم يكن لدى الأعيان العثمانيين سوى ما يمنّ به السلطان عليهم.
ويستخلص من ذلك أيضًا أن لا مجال للمقارنة بين التاريخَين العثماني - الشرق أوسطي وأوروبا العصرَين الوسيط والحديث، لكنّ العكس صحيح؛ فعقب دراسة أي نظام - سياسي أو ثقافي أو اقتصادي - منفرد بذاته ومنفصل بدينامياته الخاصة، تكون خطوة المؤرخ التالية مقارنة هذا النظام بغيره من الأنظمة في مواقع جغرافية وتاريخية أخرى. فالتاريخ العثماني يتقاسمُ بعضَ ملامح التاريخ الأوروبي الحديث، وهو أمر غير مفاجئ من ناحية تجانس الاقتصادات الزراعية والتكنولوجية حتى نصف القرن الثامن عشر الثاني، كاستخدام البندقية والإمبرطورية العثمانية تقنيات متشابهة في تنظيم تجارة الحبوب على سبيل المثال، وكالتشابه الكبير لعمليات التعامل مع الجنود غير النظاميين والمرتزقة في السياقين الإيطالي والعثماني، وغيرهما.
وفي ثنايا المقارنة العابرة للثقافات في الكتاب اطِّلاع عميق على أنماط دول القرون الوسطى ودول أوروبا الحديثة المبكرة والصين ومنغوليا وغيرها. فإثر إقرار حقيقة أن الدولة العثمانية واحدة من مجموعة الدول "الحديثة المبكرة"، جرى الحديث عن مراحل تقلبها خلال مسيرتها التاريخية وظروف تحولاتها الموصوفة في تاريخها الوسيط، وبخاصة في القرن السابع عشر، حين استحوذ أفراد عائلات إسطنبول الثرية على ملكية شبه خاصة للأراضي المشاع فأصبحوا ذوي سلطة سياسية بعد أن كانوا خدّامًا للحكام العثمانيين. لكنّ ما يعني موضوع الكتاب أكثر من استحواذ الأراضي، هو أن التحولات في الدولة العثمانية تسبّبت فيها تغيرات في بنى المجتمع التحتي وليس - كما هو شائع في كتابات المتخصّصين - تأثير الدول الأوروبية والتجار الأوروبيين. ووراء هذا، تكمن فكرة أننا في التأريخ العثماني نتعامل مع عمليات واضحة تقبل التحليل ولا تستعصي على الاستدلال والتفسير، وليس فيها أحداث غامضة يمكن أن توصف بأنها عصية على الفهم. وهي فكرة تجعل المؤرخَ حين يواجه مشروعًا كهذا لا يتراجع إلا نادرًا، على الرغم من أنه مشروع أشق على المتتبع والمتعقب مما يبدو للوهلة الأولى، وتتمثّل مصاعب غماره في تغيير المصطلحات.
تقريب الدارسة المختصة إلى غير المختصين
ويشتبك كتاب تشكّل الدولة الحديثة أيضًا مع الدلالات البيولوجستية Biologistic التي تُعنى بتفسير السلوك الإنساني في ضوء علم الأحياء، كما ورد في سياقها نحو 100 مصطلح لا يعرفها إلا المختصون في الشأن العثماني. وهو ما يؤكد أنه موجّه إلى المختصين، لكنّ تراجمَ لهذه المصطلحات وُضعت في الهوامش، بالاستعانة بـ الموسوعة البريطانية و موسوعة الإسلام، وكتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد بك، وكتاب المؤسسة العسكرية العثمانية: دراسة تاريخية ليوسف عبد الكريم الرديني، وكتاب المجتمع الإسلامي والغرب لهاملتون جيب وهارولد بوين، وكتاب تاريخ الدولة العثمانية لروبير مانتران؛ من أجل تبسيط هذه المصطلحات وجعلها في متناول المثقف غير المختص.
تتبوأ الدولة العثمانية مكانة مركزية في هذا الكتاب، وهو ما تناسب مع تيار فكري، أصبح من خصائص المؤرخين الأوروبيين في السنين العشر الأخيرة وما حولها؛ فعظماء منهم، كمارك بلوخ وفرنان بروديل وغيرهما، لم يهملوا في أعمالهم دراسة مفهوم الدولة قط، ولكن كانت ثمة مدرسة فكرية واحدة من بين مدارس المؤرخين الاجتماعية والاقتصادية في كلٍّ من فرنسا وإنكلترا تنزع إلى التركيز على أنساق الإنتاج والتوزيع وتدفع بالدولة جانبًا. لكنّ الدولة سرعان ما عادت إلى النمو في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وباتت قابلةً للقياس والتعبير في جداول ورسوم بيانية، تمامًا كما هي الحال عند دراسة أي حالة اقتصادية، بل أكثر، مع إعادة المؤرخين الاقتصاديين تأكيد حقيقة أن كثيرًا من التاريخ الاقتصادي حددته بقوةٍ شديدة تصرفات الدولة، والميل الظاهر صوب "استحضار الدولة".
أما التاريخ العثماني، فقد اتّبع مسارًا مختلفًا مع متانة تطوره في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، وإثباته حيويةً تفوق نظيرتها في التاريخ السياسي التقليدي. وعلى الرغم من كون كتلة الوثائق الأرشيفية العثمانية بأسرها منتجًا من منتجات الدولة، فقد ظل التوافق بين التاريخَين الاجتماعي - الاقتصادي والسياسي متينًا. فالأول هو مثل التاريخ الأوروبي السياسي المتحجّر الذي صبَّ اهتمامَه كله على دراسة الدولة العثمانية إلى حد استبعاد أي موضوع آخر، أما هذا الكتاب الذي تناول الدولة العثمانية، فقد استجاب لإشكالٍ قائمٍ في كلٍّ من التاريخَين العثماني والأوروبي في العصر الحديث، ولعل بالنظر إلى هذه الحقيقة تظهر الحاجة الملحة إلى ذلك النوع من المعالجة المقارنة المنتصَرِ لها في هذه الكتاب.