صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الدين بوصفه نقدًا: التفكير النقدي الإسلامي من مكة إلى ساحة السوق Religion as Critique: Islamic Critical Thinking from Mecca to the Marketplace ضمن سلسلة ترجمان، من تأليف عرفان أحمد وترجمة ياسر ثابت، ويقع في 408 صفحات، شاملًا مقدّمة، وتمهيدًا، وسبعة فصول موزّعة على قسمين، وخاتمة، ومراجع، وفهرسًا عامًّا، إضافة إلى جداول وصور.
الدين بوصفه فاعلًا نقديًا: نحو تجاوز المركزية الغربية
يسعى الكتاب لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والعقل والنقد، مقترحًا قراءة مغايرة للفكرة التي طالما هيمنت على الفكر الغربي الحديث، والتي مفادها أن النقد ظاهرة حصرية للحداثة الغربية والعقلانية العلمانية. فبدلًا من اعتبار الدين موضوعًا للنقد، يرى أحمد أنه، وبالأخص الإسلام، يمكن أن يكون فاعلًا نقديًا في حد ذاته، يمتلك أدواته ومنطقه الخاص في مساءلة الواقع والسلطة. وتمثّل هذه الأطروحة محاولة جريئة لزعزعة المسلّمات الفكرية السائدة، وتفكيك مركزية الغرب في تعريف الفكر النقدي، وتوسيع مفهوم النقد ليشمل تقاليد معرفية ودينية أخرى. وإضافة إلى ذلك، تكمن أهمية الكتاب في قدرته على إعادة الاعتبار إلى الدين بوصفه قوة نقدية خلّاقة، قادرة على مساءلة الواقع وإلهام التغيير.
النقد في السياق الإسلامي: المفاهيم والممارسات اليومية
يرتكز الكتاب على تحليل تاريخي وفلسفي دقيق لمفهوم "النقد" كما تشكّل في الغرب منذ عصر الأنوار، حيث ارتبط بالتحرر من الدين وبالعقلانية التجريبية، ليُصبح معيارًا للحداثة والتقدم. غير أن أحمد يبيّن أن هذا النموذج يحمل طابعًا متمركزًا حول الذات الغربية؛ إذ يفترض ضمنيًا أن كل ممارسة فكرية أو روحية خارج الإطار الغربي تفتقر إلى النزعة النقدية. وفي هذا الإطار، يقدّم مساهمته الكبرى المتمثلة في برهنته أن في التراث الإسلامي جذورًا عميقة للتفكير النقدي، وأن المفاهيم الإسلامية، مثل التقوى والاجتهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة، تشكّل جميعها أنماطًا من النقد، لأنها تدعو إلى محاسبة الذات والسلطة والمجتمع وفق معايير أخلاقية وروحية متجاوزة للمصلحة الفردية أو السياسية. ويعرض أحمد تقاليد نقدية مزدهرة في الثقافة الإسلامية، خصوصًا في جنوب آسيا، مستندًا إلى مراجع من لغات متعددة.
يُظهر الكتاب أن النقد في السياق الإسلامي ليس مجرد نشاط عقلي أو فلسفي، بل هو ممارسة حياتية تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية. فالأسواق والمساجد والمجالس العامة كلها فضاءات تُمارَس فيها أشكال من النقد العملي والاجتماعي، الذي يقوم على الحوار والمساءلة والبحث عن العدالة. وبناء عليه، تبرز أهمية العنوان الفرعي للكتاب: التفكير النقدي الإسلامي من مكة إلى السوق.
تفكيك الاستشراق وإعادة تعريف الحداثة
من ناحية أخرى، يتناول أحمد بالنقد فكرة أن الإسلام هو مجرد "موضوع" للتحليل الغربي، مشيرًا إلى أن هذا المنظور الاستشراقي يغفل عن حقيقة أن الفكر الإسلامي أنتج عبر تاريخه الطويل تقاليد نقدية ثرية، سواء في الفقه، أو الفلسفة، أو التصوّف، أو السياسة. ويستعرض، في هذا السياق، نماذج من المفكرين الإصلاحيين (أبو الأعلى المودودي مثالًا)، الذين مارسوا نقدًا مزدوجًا؛ نقدًا للهيمنة الغربية، ونقدًا للانحرافات داخل المجتمعات الإسلامية نفسها. ومن خلال تحليل خطابات هؤلاء المفكرين حول قضايا الدولة الإسلامية، ودور المرأة، والعدالة الاجتماعية، يبيّن أحمد أن الإسلام لا يكتفي بالامتثال للواقع، بل يسعى دائمًا لإصلاحه وتقويمه وفق مبادئه الأخلاقية.
يؤكد أحمد أن إعادة الاعتبار إلى البعد النقدي في الدين لا تعني تبرير الأيديولوجيات الدينية أو الانغلاق الفكري، بل تهدف إلى تحرير مفهوم النقد نفسه من احتكاره الغربي، والاعتراف بأن كل ثقافة تمتلك طرقها الخاصة في التفكير والسؤال والتقويم. ومن ثم، يرى أن الفصل الصارم بين العقلانية والروحانية الذي ساد في الفكر الحديث ليس سوى بناء ثقافي محدود، لا يعكس تنوّع التجارب الإنسانية.
يخلص الكتاب إلى ضرورة إعادة تعريف الحداثة نفسها، بوصفها مشروعًا متعدد الأوجه، لا يحتكر الفكر الغربي معاييره ومعانيه. فالحداثة الإسلامية، كما يفهمها، ليست نقيضًا للحداثة الغربية، بل قراءة أخرى للحداثة من داخل تجربة تاريخية ودينية مختلفة. ومن خلال هذا الطرح، يُفتح المجال لحوار عالمي جديد حول الدين والنقد والعقل، يقوم على الاعتراف المتبادل والتكافؤ المعرفي بين الثقافات.