تبحث هذه الدراسة في تأويل المرض بوصفه مظهرًا لحياة إيتيقية داخلية وعميقة لوجود متلبّس بالجسد ليقول شيئًا ما عن تلك الحياة التي تختبئ وتتموّه لتُفلت من العلاج بوصفه عقابًا في المنظور الإيتيقي للطب المعاصر، بما يحمله من شرور تتلون بلون العلم وتحاجج بسلطة المعرفة، إذ تصطبغ المنظومة اللغوية للطب بالصبغة الإيتيقية (المرض الخبيث والصامت، الموت الرحيم، الورم الحميد، الرعاية الطبية...)، وهو ما يستدعي الحاجة إلى إعادة فهم السلوك البيولوجي للمرض من خلال هرمينوطيقا (تأويلية) تُصغي إلى صوت المرض في تجلّيه الأنطولوجي، أي بوصفه تعبيراً عن وجودٍ للذات خارج حدود البيولوجيا البشرية.
وإذ تضع هذه الدراسة، في بدايتها، مفهوم المرض قبالة مفهوم الشر، فلأنّ المرض الذي أصبح أقوى من الحياة نفسها، هو صناعة طبية للشر في الجسد، في ما يظهر من الآثار الجانبية للأدوية، وتطوّر «شراسة » الفيروسات، و «وحشية » الميكروبات، إذ نشهد في هذا السياق مفارقة كبيرة تتمثّل في أن الأمراض تطورت وازدادت فتكاً مع تطور الطب وتحسّن تقنياته وآلياته العلاجية، الأمر الذي يعني أن المرض، في جانبه الإيتيقي، «يثأر » و «ينتقم » من الطب، مُطوّرًا أساليبه في التمويه والخداع والتضليل، ومُغيًّا أعراضه على الجسد، باعتبار ذلك ردّة فعلٍ على «سوء فهمٍ »
لخطاب الحياة الإيتيقية للمرض. كما تتطور «المناعة » إيتيقاً أيضاً، وتتحصّن بالقيم التي يتبنّاها المريض عن الحياة والطبيعة والمجتمع، فالمرض «يسمعنا » من حيث لا «نسمعه »، إنه يصغي إلى الأحكام )الطبية والأخلاقية( التي تصدرها المنظومة «العقلانية » لحياة خارجية (علمية، اجتماعية، دينية، نفسية...).
ومنه تُحلل هذه الدراسة، على مستوى آخر، الطابع العقلاني لحياة المرض، من خلال جعل المرض يُقيم على مسافة من الجسد لنتمكن من تعقّله في المكان الأصلي والحقيقي الذي يسكنه، انطلاقًا من السؤال الأنطولوجي: هل «نحن » نمرض؟ أم أن المرض «يُصيبنا »؟ وما التوجّه إلى الطب البديل (الأعشاب..) إلا طريقة لنقلِ قراءتنا لحياة المرض من صورة معتمّة (الصناعة الطبية) إلى صورة أوضح (الطبيعة الخالصة).
إن ذلك يقودنا إلى إعادة فهم العلاقة بين الطبيب والمريض، وتحويل منظورها من كونها علاقة علاجية استشفائية إلى عقد أخلاقي يلتزم فيه الطبيب ب «الإصغاء » إلى المرض، كما يلتزم فيه المريض )ضمنياً( بتقديم الصوت الداخلي والأصلي للمرض من دون تضليل أو خداع. في نهاية الدراسة نقرأ «وصية » المريض إيتيقًا، مؤوّلين خطاب الوصية بما هي لحظة شفافة وحقيقية لصوت المرض الداخلي ولحياته الأنطولوجية؛ المرضُ مخاطبًا الحياة، بدليل أن المريض المشرف على الموت يُوصي أناسًا لن يعيش معهم ولن يتأثر بموقفهم، ومن ثمة هو كلام المرض بذاته وفي ذاته