إنْ خضَع بلَدان للآليات التنموية نفسها، فلماذا ينمو مجتمع أحدهما ويتقدم في مسيرته الإصلاحية، بينما يراوح الآخر مكانه؟ ارتسم هذا السؤال في ذهن الباحث المغربي يحيى بولحية، حين أقبل على تأليف أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ التي صدرت كتابًا تامًا مفهرسًا وموثّقًا بعنوان البعثات التعليمية في اليابان والمغرب من أربعينيات القرن التاسع عشر حتى أربعينيات القرن العشرين - تباين المقدمات واختلاف النتائج، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (847 صفحة من القطع المتوسط). وضع بولحية مسألة البعثات التعليمية المغربية واليابانية، بوصفها آلية تحديثية، في إطارها التاريخي العام، من النواحي الإدارية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.
ويتمثّل السؤال الأساس في هذا الكتاب، بـ: لماذا استفاد اليابان من البعثات التعليمية إلى العالم الرأسمالي ولم يستفد المغرب؟ وهل نتج هذا التفاوت من البنية المجتمعية المختلفة في البلدين؟ أم من البنية الذهنية ودور المدرسة والنموذج التعليمي فيهما؟ يحلّل بولحية بإسهاب طبيعة النظام السياسي في البلدين، وتعرّضهما للهجمة الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويبحث في خصوصيات البناء الاجتماعي والثقافي والرمزي والأسطوري، مستنتجًا لحظات القوة والضعف في البنية التربوية والتعليمية في المغرب واليابان، من خلال وثائق مغربية ويابانية، مؤكدًا قيمة التراكم في منح الفاعلية والنجاعة لرؤى التنمية المختلفة.
يقع الكتاب في قسمين: القسم الأول تحت عنوان "الإطار العام للبعثات التعليمية المغربية (1844 ــ 1912) والبعثات التعليمية اليابانية (1853 ــ 1945)". وهو في ثلاثة فصول؛ يقدّم الفصل الأول مسحًا شاملًا لأوضاع المغرب السياسية والاجتماعية والتعليمية في فترة ما قبل الحماية الفرنسية؛ فيتحدث المؤلف عن بنية المخزن الحسني واتجاهاته، ووقوعه بين مطرقة الضغط الأوروبي وسندان خطاب الإصلاح الداخلي، وعن عهد الوصاية وسير المخزنين العزيزي والحفيظي نحو الأزمة، ثم بلقنة المجتمع المغربي. ويتطرق أيضًا إلى خصوصيات التعليم في المدرسة المغربية.
أمّا الفصل الثاني فعنوانه "أوضاع اليابان السياسية والاجتماعية والتربوية بين العزلة والانفتاح والتوسع". يتحدث فيه بولحية عن المجتمع الفيودالي الياباني، وحملة بيري والتحدي الغربي للعزلة اليابانية، وأسطورة الميجي ومطلبَي التحديث والإصلاح الدستوري، وثقافة الجماعة والتضحية. ويقدّم المؤلف أيضًا عرضًا مفصّلًا للمدرسة وسياسة التعليم في اليابان، وللمجتمع الياباني بين العسكريتاريا والإمبريالية.
يتمحور الفصل الثالث حول دراسة علاقة المجتمع بالسلطة في المغرب واليابان. ويعرض فيه المؤلف النظرة المغربية لليابان، والأسطورة اليابانية ومبدأ الوحدة وكاريزماتية السلطة المنهارة في المغرب، والولاء والوحدة في اليابان والحماية في المغرب، وتعارض الخطابات وتنافر الذهنيات بين المغرب واليابان، ودراسة مقارنة بين محمد الصفار وفوكوزاوا يوكيتشي، إضافةً إلى مقدمات التعليم في المغرب واليابان ونتائجه.
ينقسم القسم الثاني، "كرونولوجيا البعثات التعليمية المغربية واليابانية إلى أوروبا وأميركا: قضايا وإشكالات"، إلى ثلاثة فصول أيضًا. يقدّم المؤلف في الفصل الرابع من الكتاب بحثًا في مقدمات البعثات التعليمية المغربية ونتائجها، وصورةً دقيقة للمغاربة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وللبعثات التعليمية في عهد الحسن الأول بالأرقام والقضايا والإشكالات، إضافةً إلى تحديد معايير انتقاء المشاركين في هذه البعثات، وقضايا التمويل والنفقات، وعودة المبتعثين إلى المغرب، وإشكالية اندماجهم في مجتمعهم.
وإن تصدّى هذا الفصل للبعثات التعليمية المغربية، فالفصل الخامس يستعرض البعثات التعليمية اليابانية وصناعة النخبة الإصلاحية بعد إياب المبتعثين، ويفصّل بالأسماء، وبدقة متناهية، بعثات الباكوفو وبعثات شوتشو وساتسوما المعارضة للباكوفو، وبعثة إيوكارا، مقدّمًا نماذجَ من المتعلمين اليابانيين في الخارج، وقضايا التمويل، إلى جانب الخبراء الأجانب في اليابان.
أمّا الفصل السادس والأخير من الكتاب فخصّصه بولحية لعرض النتائج المتباينة لمقارنة البعثات التعليمية المغربية واليابانية، من منطلقات أربعة: شمولية ميادين التعليم الياباني وهواجس التعليم العسكري في المغرب؛ واندماج المتعلمين اليابانيين وتهميش الكفاءات المغربية؛ والبعثات التعليمية المغربية واليابانية بين الكفاءات الفردية المنعزلة ونخب الفعل الجماعي؛ والبعثات التعليمية اليابانية والمغربية بين منطق القطيعة والاستمرارية ومبدأ النخبة والشمولية.
يستنتج بولحية من بحثه المعمّق هذا أنّه يصعب تقويم مآل البعثات التعليمية المغربية واليابانية إلى دول الغرب الرأسمالي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بمعزلٍ عن الأوضاع العامة التي أحاطت بالبلدين، وأفرزت نتائج متباينة على مستوى مآل التحديث في المغرب واليابان. يقول إنّ المغرب فقَدَ خلال الفترة المذكورة، سلطةً ومجتمعًا، أمةً ونخبةً، مقدمات التغيير وقابلية الإصلاح، ومن غير اللائق نسبة الفشل إلى فئة مجتمعية أو إلى نخبة محددة أو تيار سياسي فكري معيّن. ولم يكن ذلك متعلقًا بفكرٍ سلفي غير قادر على مواكبة تحولات التحديث الأوروبي؛ فقد اعتمد اليابان سلفيته الخاصة، وارتكز على قيمه الأخلاقية والأسطورية في عملية الإصلاح والتنمية، ونجح في التوفيق بين التقليدية والتحديث، ما جعل منه مادةً للمقارنة والتمثّل والاقتداء من عدد من الكتابات والندوات والكراسي العلمية ومراكز الدراسات المبثوثة في مختلف مناطق البحث الأكاديمي في أوروبا وأميركا الشمالية وآسيا. ونجحت البعثات التعليمية اليابانية في تحقيق أهدافها بسبب التراث الذهني والتماسك الاجتماعي الذي تأسس على منطق التراكم التاريخي والخبرة الفيودالية القديمة، القائمة على أساس سلفي تقليدي، ينهل من الرموز الثقافية والاتجاهات العقدية والفكرية، ويوظفها بذكاء متميز في مسيرة التحديث.