يبني كاظم هاشم نعمة دراسته روسيا والشرق الأوسط بعد الحرب الباردة - فرص وتحديات، الصادرة كتابًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (في 176 صفحة بالقطع الصغير)، على افتراضات عدة في معالجته العلاقات الروسية الشرق أوسطية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومنها أنّ النفعية الواقعية الهجومية الدفاعية، لا المثالية الغربية الليبرالية أو الأيديولوجيا السوفياتية - الروسية، هي الدافع الرئيس لحركة - مجال السياسة الخارجية الروسية بعد الحرب الباردة، وأنّ التحولات الجذرية في الوطن العربي - الشرق الأوسط أفضت إلى واقع بنيوي لما بعد الحرب الباردة، يؤثر في صوغ سياسة خارجية روسية تبقى رهينة العلاقات الروسية - الأميركية وقدرات القوة الشاملة الروسية القومية، خصوصًا الاقتصادية.
يقع هذا الكتاب في سبعة فصول وخاتمة. يصور نعمة في أولها، وعنوانه روسيا ما بعد السوفياتية، السجال الذي استعر في شأن هوية روسيا ما بعد السوفياتية بين تيارات فكرية وفئات سياسية ومراكز قوى، إضافة إلى الكنيسة الروسية، وانكماش روسيا على ذاتها في الاتجاهات كلها، وتعمق جرحها النفسي، وشعورها بالضياع والخذلان والإذلال بين صفوف الفئات السياسية والاجتماعية والعسكرية. ويلفت المؤلف في هذا الفصل إلى أنّ روسيا قدّمت العالم الإسلامي على الوطن العربي في اهتمامها، لأنّ التحدي الإسلامي لروسيا بعد الربيع العربي والأزمة السورية مثّل مصدر تهديد أمني للقوقاز ووسط آسيا، علمًا أنّ المنطقة العربية كانت تحل في المرتبة شبه الأخيرة في سلّم اهتمامات السياسة الخارجية الروسية.
في الفصل الثاني، بوريس يلتسين: عهد الإهمال والإغفال، يبحث المؤلف التوجه الروسي غربًا الذي انتهجه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، والذي أدركت موسكو في منتصف تسعينيات القرن الماضي أنه لم يدرك أهدافه. حينها، خابت توقعات يلتسين والليبراليين في أن يكون التعاون مع الولايات المتحدة تعاونًا بين قوتين كبيرتين إستراتيجيتين عالميًا، "وبعدما حسب يلتسين أنّ نهاية الحرب الباردة شكلت قسمة عادلة، خرجت روسيا والولايات المتحدة منها بمكاسب، كانت النتيجة أقرب إلى معادلة صفرية".
في عهد يلتسين، سادت سياسة خارجية روسية مرتبكة، إذ انصرف الروس إلى ترتيب علاقاتهم الثنائية بالولايات المتحدة والغرب، بسبب ضعفهم الاقتصادي والمنظومة الفكرية للمدرسة الأطلسية. ويأتي الموقف الروسي من أزمة الخليج العربي في الإطار نفسه، إذ لم تقف موسكو في طريق السياسة الأميركية في المشكلة العراقية، ولم تعترض على حصار العراق، بل اكتفت بخطاب سياسي طالب برفع الحصار لا أكثر. وحين قدمت مبادرة وساطة، أتت مبادرتها ضمن هيكل العلاقات الروسية – الأميركية، لا خارجه.
يبحث نعمة في الفصل الثالث، تناوب السياسات في تناول الأزمات، عهدي فلاديمير بوتين وبينهما عهد ديمتري ميدفيديف، فيسمي الحقبة البوتينية الأولى "عهد السياسة الحذرة"، إذ شاب الحذر العلاقات الروسية - الأميركية بعد حوادث 11 سبتمبر 2001، خصوصًا حيال التدخل الأميركي في العراق، مع أنّ موسكو قد سخّرت أجواءها وقواعدها في وسط آسيا لخدمة واشنطن، وعودتها إلى التعاون مع حلف الناتو بعد توقف سبّبه الصراع على يوغسلافيا.
يسمي نعمة عهد ميدفيدف "عهد التطبيع والإعادة"، إذ عاد فيه التوتر بسبب قرار واشنطن ضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، واستخدام روسيا القوة العسكرية في أبخازيا وأوسيتيا. لكن ما لبثت سياسة "الإعادة" في العلاقات الروسية - الأميركية أن انطلقت في ظل إدارة باراك أوباما، واستعداد واشنطن "للاعتراف بمصالح روسيا واحترامها"، لتتعثر هذه الإعادة بسبب أزمات إدوارد سنودن وسورية وأوكرانيا والعقوبات الاقتصادية.
في عهد بوتين الثاني، أو "عهد السياسة الناشطة"، عادت روسيا لترى نفسها خليفة الاتحاد السوفياتي لا ركامه، ورسمت حدودها الجيوسياسية وأهدافها في إطار عقيدة سياسة خارجية وأمنية وعسكرية معيّنة، وانتهجت سياسة ناشطة تحمي أمنها القومي وتحفظ هيبتها وتوسع مصالحها الاقتصادية.
يعرض المؤلف في الفصل الرابع، وعنوانه تحديات عربية لأمن روسيا، قناعة صنّاع القرار الروس أنّ الغرب يستخدم الظاهرة الإسلاموية لإضعاف روسيا وتفكيك فدراليتها، وأنّ السياسة الأميركية تقف وراء تفشي هذه الظاهرة، وأنّ الغرب يتعامل معها بطريقة انتقائية توجهها أجندة جيوسياسية تستهدف أمن روسيا، خصوصًا أنّ الغرب يدرك خشية روسيا من تسرّب الإسلامية الراديكالية "أكثر مما تخشى خسارة مصالح اقتصادية وعقود تسليح ومواقع تستخدمها منصات لعرض قوتها عالميًا أو توسيع نفوذها في مواجهة الولايات المتحدة والغرب". وقرّبت ظاهرتا الإرهاب والتطرف الإسلامي روسيا من دول عربية ليس لها فيها فرص عقود تسليح أو تجارة، كالأردن مثلًا، "لكن فيها جالية شيشانية يمكنها أن تمد الحركة الشيشانية بالدعم المادي والتأييد وغيرها". وبقي بوتين مصرًا على التفريق بين الإسلام والإسلام السياسي، فيُنسب إليه قوله "إنّ روسيا هي المدافع الأمين والموثوق به عن مصالح العالم الإسلامي، وهي أفضل شريك وصديق لهذا العالم".
في الفصل الخامس، وعنوانه روسيا والصراع العربي – الإسرائيلي، يرصد نعمة تحول موقف روسيا من هذا الصراع بعد انحدار مرتبتها من قوة عظمى إلى قوة تبحث عن هوية، وبعد اتفاق أوسلو الذي جعل فلسطين وإسرائيل طرفين متساويين قانونيًا. وبحسب المؤلف، "يخطئ من يظن أنّ موسكو مستعدة لتبني سياسة تغيّر الوضع القائم اليوم، فالسوفيات أخفقوا في ذلك وكانوا في أوج قوتهم. ويدرك الروس أنّ التفوق الإستراتيجي التقليدي والنووي الإسرائيلي يحول دون نشوب حرب عربية - إسرائيلية، وهم لن يخطوا خطوة يمكن أن تربك هذا التفوق، أو أن تحقق توازن قوة في المنطقة، لذا ينادون دائمًا بالحل السلمي، ويسمونه بديلًا إستراتيجيًا بعدما أقرّه العرب في مبادرتهم الجماعية، وحصل على التأييد الدولي".
في الفصل السادس، روسيا والربيع العربي: خصوصية الحالة السورية، يقول نعمة إنّ روسيا رأت في الربيع العربي نتاجًا لعوامل داخلية طرأت عليها عوامل خارجية مع تطور الحوادث، وتطورًا اجتماعيًا نضج فأنشأ بيئة جديدة لحركة السياسة الخارجية الروسية، لكنه في الوقت نفسه عبّد الطريق أمام الهيمنة الإسلامية على المنطقة. وبحسب نعمة، أتاحت الأزمة السورية لروسيا فرصة كي تعزّز موقفها التفاوضي في السعي الجدّي إلى صوغ قواعد جديدة للعبة الدولية، غير التي أرستها الولايات المتحدة حين افترضت أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأنّ روسيا ضعيفة ومعزولة. وموسكو لا تعارض تغيير نظام دمشق، بل تعارض الطريقة التي اختارها الغرب لتحقيق ذلك. فالهدف الأميركي هو الهيمنة على المنطقة وتطويق روسيا إقليميًا، وهذا لا يختلف عن الاقتراب من الحرم الأمني الروسي المباشر. وأرادت روسيا من تدخلها في سورية أن يدرك الغرب أنّ محدودية خياراته في الحرم الأمني الروسي لا تعني حريته في أقاليم فيها مصالح روسية.
في الفصل السابع، مثلث روسيا - إيران – تركيا، يشرّح نعمة العلاقات الثنائية داخل هذا المثلث. فموسكو ترى في إيران شريكًا "في مواجهة جبهة تركية – سعودية - أميركية في الأزمة السورية، وجبهة سنّية –تركية – خليجية في المنطقة لها نفوذ في القوقاز الكبير وفي وسط آسيا، وجبهة نفطية في مواجهة حلف سعودي - أميركي يسعى إلى إنهاك الاقتصاد الروسي للضغط على موسكو كي تقدم تنازلات في أوروبا وسورية وإيران". وفي الوقت نفسه، تسعى موسكو إلى جذب أنقرة إذ تدرك قيمتها أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا وفي بنية العلاقات الروسية – الأميركية. فهي حارس بوابة الدردنيل التي يمكن منها خنق روسيا أو جعلها قوة بحرية كبرى في البحر الأسود. كما يجعلها موقعها ممرًا بديلًا للطاقة الروسية للإفلات من تطويق أميركا والغرب.
في خاتمة وتوصيات الكتاب، يوصي نعمة بأن تبلور جامعة الدول العربية سياسة عربية تجاه روسيا تقوم على مصالح الأمن القومي العربي، فلا تبقى السياسة العربية وظيفةً في العلاقات العربية – الأميركية – الغربية، ولا ترتبط العلاقة الروسية العربية بقضية واحدة، كالقضية الفلسطينية أو الأزمة السورية. يشدد نعمة على ضرورة الحوار مع روسيا في قضايا النظام الدولي ودور الأمم المتحدة، والتطلع إلى نسق جديد من العلاقات بعد تسوية فيينا للبرنامج النووي الإيراني، مع تأكيد مبدأ عدم التدخل في مسائل الأمن الروسي في القوقاز، والتزام الحياد في الخلافات الروسية – الأميركية – الغربية، والتعاون مع روسيا في مكافحة الإرهاب، وتوسيع نطاق الاستثمار العربي فيها.