شمل العدد محورًا بحثيًا عن "سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر". كما ضمّ دراسات أخرى من خارج المحور، إضافةً إلى ملفات بحثية عديدة
ناقشت الدراسة الأولى في المحور "الحرية ومعوقات الفعل: التأسيس لمفهوم ليبرالي للحرية في الفكر العربي"، للباحث رجا بهلول، عددًا من الأفكار المترابطة التي يراد بها أن تقودنا إلى نتيجة مفادها ألّا مبرر للاعتقاد بعدم إمكانية تأصيل المفهوم الليبرالي للحرية في سياق الثقافة العربية الإسلامية. لخصت الدراسة هذه الأفكار كما يلي: للمفهوم الليبرالي للحرية أساس ميتافيزيقي، ولهذا الأساس الميتافيزيقي تجليات مختلفة في مجالات شتّى، كما أنّ له حضوره على صعيد الفكر الفلسفي القديم، سواء اليوناني منه أو العربي - الإسلامي. ووجد الباحث أنّ لهذا الأساس الميتافيزيقي فرصةً للتعبير عن نفسه بقوة في الفلسفة السياسية الغربية، تحت تأثير الغرب، وأنّه في سياق حداثة عربية فرضت علينا أو تطورت عندنا، تتوافر (أو توافرت منذ عصر النهضة العربية) فرصة لكي يعبّر هذا التصور الميتافيزيقي للحرية عن نفسه في الفلسفة السياسية العربية الحديثة والمعاصرة.
أمّا الباحث المنجي السرباجي، فقد انطلق في بحثه "ماذا يعني أن نفكر عربيًا في الحرية؟" من التفكير في معنى التفكير نفسه وفي أدواته وممكناته، ويخلص إلى ضرورة مباشرة سؤال الحرية، استنادًا إلى عقلانية معيارية قادرة على تجاوز الاختزال الوظيفي الذي لحق العقل السياسي عندما تمّ تحويله إلى تقنية تسويغٍ للسلطة القائمة. ثمّ يعكف البحث، في مرحلة ثانية، على تحديد معالم هذه العقلانية المعيارية. وفي مرحلة أخيرة يرصد البحث مقومات التنظيم المؤسسي الذي يمكن أن يشكّل ضمانًا موضوعيًا لأوسع مجال ممكن من الحريات. وفي هذا الإطار، يبين البحث أنّ أهمّ هذه المقومات هو الحياد العقائدي والأخلاقي لدولة القانون والديمقراطية.
وبيّن الباحث فريدريك معتوق في دراسته "العصبيات: آكلة الحريات السياسية" أنّ الحريات السياسية في العالم العربي المعاصر تعيش أزمةً بنيوية مردّها إلى عدم تصفية المجتمعات العربية حساب علاقتها بالعصبيّات التي ورثتها عن الأجيال السابقة؛ ذلك أنّ صيَغ التجانس التي تؤدي إليها عمليات التقريب السياسي تعجز عن بلوغ مستويات التكامل الحقيقي، فنبقى في صيَغ ما نسمّيه الاندماج التي هي دومًا دون مستوى الحرية السياسية المنجزة. وتسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن أسباب هذا الإخفاق ونتائجه في الحياة العامة.
يهدف الباحث مهند مصطفى في دراسته "سياسة الاعتراف والحرية: سجال وإطار نظريّ تحت طائلة الراهن العربي" إلى نقاشٍ نقديٍّ لمنظومة سياسة الاعتراف التي نتجت منها حقول معرفية عديدة، أهمها الحقل المعرفيّ الذي يُعنى بالتعدديّة الثقافيّة. ويحاول البحث أن يُميّز، ضمن معايير محددة، بين مفهوم الاعتراف الذي يضمَن تكامل عملية بناء الأمة ضِمن تعددية ثقافية في إطار الدولة الوطنية والمواطنية، وسياسات الاختلاف التي تؤدي إلى تفتيت الأمة وحتى تفكيك الدول. ويقترح البحث في النهاية إطارًا نظريًا في السياق العربي وبخاصة في المجتمعات المنقسمة داخليًا؛ وذلك بناءً على العرض والقراءة الناقدة للسجال النظري في هذا الحقل.
ضمّ العدد أيضًا في "قسم دراسات وأبحاث" دراستين من خارج محور العدد. فقد تناول الباحث محمد الصادقي دراسةً بعنوان "الشر وموقعه ضمن التصور الميتافيزيقي للعالم عند ابن سينا"، شرح فيها أنّ الشر يظهر للناس فوضويًا ومفاجئًا ومهددًا لخيراتهم، وأنّ طريقة اشتغاله تشكل لغزًا محيرًا بالنسبة إليهم، ما يخلق تضاربًا في تفسيراتهم، بين مَن يُلقي باللائمة كلّيةً على الإرادة الإنسانية، معتقدًا أنّ الأمر يتعلق بمشكلة أخلاقية لا دخل فيها للدين ولا للعلم، من جهة، ومَن يتّهم الطبيعة والأوضاع والأحوال، ظنًّا منه أنّ التفسير الفيزيائي يُلغي التفسير الميتافيزيقي، من جهة ثانية، ومَن يُفوّض الأمر بأكمله للإرادة الإلهية، ويُعفي نفسه من عناء البحث عن قوانين اشتغال الشر في الطبيعة والإنسان، من جهة ثالثة. ويشكّل هذا البحث فرصةً لأن نتساءل مع ابن سينا عن دلالة الشر، والحكمة من وجوده، ونصيب كل من العلم والأخلاق والدين والفلسفة في تفسيره. كما ترجم الباحث إياس حسن بحثًا لجورج كانغيلِم في مفهوم الأيديولوجيا في دراسته "ما هي الأيديولوجيا العلمية؟". وقد عرّف كانغيلِم "الأيديولوجيا العلمية" بأنها الخطاب الذي يسبق علمًا قيد التأسيس، بعد أن يستند إلى علم قائم، ويحاكيه في مناهجه ومعطياته، فيكتسب من خلال طموحه لكي يكون علمًا، صفةَ "أيديولوجيا علمية". وتشكل هذه الأيديولوجيا، بطبيعتها، عقبةً إبستمولوجيةً، لكنها في الوقت ذاته تشكّل - بما تطرحه من إشكالات وبما تحرّض عليه من نقد - دافعًا أمام تأسيس العلم الجديد الذي يطرد هذه الأيديولوجيا، وهو أمرٌ لا يظهر تمامًا في الموقع الذي أشارت إليه، بل بانزياحٍ عنه.
أمّا قسم "من المكتبة"، فقد احتوى مراجعتين تحليليتين. تناول الباحث محمد المصباحي في ورقته "التمثيل والتأويل بين ضرورة الإخفاء وواجب التبيين الدلالي لدى ابن ميمون" موقف ابن ميمون من دلالة إخفاء "كتب النبوة" للحقيقة عن الجمهور بالتمثيل والترميز، وتنبيه أهل الحكمة كي ينهضوا للكشف عنها. في حين ركزت مراجعة ثائر ديب لكتاب "اتجاهات معاصرة في فلسفة العدالة: جون رولز نموذجًا" على موضوعتي الليبرالية والديمقراطية في فكر جون رولز. وهو العنوان الذي اختارته الترجمة العربية لكتاب .The Cambridge Companion to Rawls
كما ضمّ العدد، في قسم "مناقشات ومراجعات"، ثلاث مناقشات بحثية. تناول الباحث طاهر حمدي كنعان في المناقشة الأولى "عنجهية السوق أو تهديد قيمِالسوق قيمَ المجتمع" تبيان جانب من النتائج الثقافية – الاجتماعية لما عُدّ الانتصار النهائي للأفكار الاقتصادية لليبرالية المتطرفة التي تؤمن إيمانًا عقائديًا بالقدرة الكلّية لقوى السوق. أمّا الباحثة جويدة غانم، فقد تحدثت في ورقتها "الرؤى النقدية والاستشرافية للكولونيالية وما بعدها بين شكيب أرسلان وإدوارد سعيد" عن الكولونيالية وما بعدها، في نسق تجربتين رائدتين في مجال الثقافة والمقاومة والثقافة الإمبريالية. في حين بيّن عبد الواحد أيت الزين في ورقته "في نقد بداهات الوحي: هشام جعيط أنموذجًا" أهمية قراءة جعيط للوحي. فالباحث يزعم أنّ جعيط قدّم انفتاحات جديدةً بصدده، تتعلق أساسًا بتجاوز رؤى الفقه التقليدي حوله من ناحية، ومراجعة حسابات المستشرقين بشأنه من ناحية أخرى.
اختُتم العدد بتقرير أعدّه إبراهيم القادري بوتشيش عن المؤتمر السنوي الخامس للعلوم الاجتماعية والإنسانية "سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر"الذي أُنجز بالدوحة خلال الفترة 12 - 14 آذار/ مارس 2016.