أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمان، ترجمة نصير مروة لكتاب بيار بورديو عن الدولة – دروس في الكوليج دو فرانس (1989-1992) الذي جمع فيه باتريك شامباين، وريمي لونوار، وفرانك بوبو، وماري كريستين ريفيير، دروس بورديو في الكوليج دو فرانس، وأصدروها بالفرنسية في كتاب Sur l'État: Cours au Collège de France (1989-1992).
لكن عن أي دولة يعظ بورديو في دروسه هذه؟ إنها الدولة الغربية التي باتت تتخذ صفة الكونية، أو صفة الكلي الجامع بالعنف. فالدولة في عينيه احتكار للعنف المادي والرمزي أو الاعتباري، والمحتكِر هنا هو مَلِكٌ أو سلالة ملكية أو طبقة.
يقع هذا الكتاب المرجعي في 735 صفحة بالقطع المتوسط، وينقسم إلى 23 درسًا قدمها بورديو. في درس 18 كانون الثاني/ يناير 1990، يجد بورديو تدبّر مسألة الدولة موضوعًا عصيًّا على التفكير، فيحذر من الأفكار المسبقة والتلقائية، ويدعو إلى تجنب الأفكار المألوفة الموروثة. يقول: "إذا كان لا بد لي من إعطاء تعريف موقت لما يطلق عليه اسم ’الدولة‘، فإنني أقول إنّ قطاع حقل السلطة أو السلطان الذي يمكن أن نسميه ’حقل إداري‘ أو ’حقل الوظيفة العمومية‘، هذا الحقل الذي يتبادر إلى ذهننا على نحو خاصٍ حينما نتكلم على الدولة وحدها، ومن دون زيادةٍ في التوضيح أو نقصان، إنما يعترف بامتلاكه الاحتكار المشروع/ الشرعي للعنف المادي والرمزي".
يرى بورديو في درس 25 كانون الثاني/ يناير 1990 أنّ الدولة تعزز وجهة نظر من بين أخريات، ويسميها وجهة النظر المحيطة بوجهات النظر، أو الرسم الهندسي الجامع لكل وجهات النظر. ويميز بين دولة بوصفها طبيعة خالقة ودولة بوصفها طبيعة مخلوقة، ويقول إنّ رؤية الدولة بوصفها جمعًا من الأشخاص المنظمين الذين ينتدبون الدولة ويفوضونها، أي الرؤية الديمقراطية، خاطئة لأنها تختزن شيئًا من الصنمية.
في درس أول شباط/ فبراير 1990، يتصدى بورديو لمسائل عدة، منها بيانُ الرسمي وتبيينه وبلاغته، والعمومي والرسمي، والآخر الكلي الجامع والرقابة، وولادة الخطاب العمومي، وخطاب العموم واتّباع الأصول، والرأي العام. يقول: "إنّ التعريف الصريح للرأي الرسمي، في مجتمع يزعم أنه ديمقراطي، من أنه رأيُ الكافة، إنما يخفي تعريفًا مضمرًا هو أنّ الرأي العام هو رأي أولئك الذين هم جديرون بأن يكون لهم رأي. هناك ضرب من التعريف المقصور المحصور للرأي العام كرأي مستنير، كرأي جدير بأن يحمل اسم رأي".
يتحدث بورديو في درس 8 شباط/ فبراير 1990 عن تركّز الموارد الرمزية الاعتبارية، ويقدم قراءة سوسيولوجية لفرانز كافكا، ويتناول التخلي الوضعي الذي يبدل البحث عن الحقيقة حيث هي بالبحث عنها حيث تمكن رؤيتها. ويبحث في علاقة التاريخ بعلم الاجتماع، وفي الأنظمة السياسية للإمبراطوريات لشموئيل نُوا آيزنشتادت، ويقدم اختصارًا لكتابي بيري أندرسون العبور من العصور القديمة إلى الإقطاعية، ودولة الحكم المطلق، ويتناول "مشكلة الدروب الثلاثة" في كتاب الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية لبارينغتون مور.
يعارض بورديو في درس 15 شباط/ فبراير 1990 الرؤية الماركسية بالرؤية الهيغلية للدولة، فالرؤيتان تمثلان عنده قطبين متناقضين لأنثروبولوجيا الدولة، وهما في اعتقاده وجه الورقة وقفاها. يقول: "لا نستطيع الحصول على الدولة الهيغلية من دون أن نحصل على الدولة الماركسية". ويتناول بورديو مسألة نشوء الدولة في علم الاجتماع والتاريخ من وجهة نظر بنيوية نشوئية، وتاريخ الدولة النشوئي. ويتحدث عن الازدواجية الجوهرية للدولة: "لا يمكن أن ننطق بخاصية إيجابية لها من دون أن نثنّي في الحين ذاته بخاصية سلبية، أو نورد خاصية هيغلية من دون خاصية ماركسية، أو خاصية تقدمية من دون خاصية رجعية قمعية".
في درس 10 كانون الثاني/ يناير 1991، يتناول بورديو ولادة الدولة ونشوءها، أو النشوء الاجتماعي للدولة، وبنية تشغيل الدولة وطرائقه، وذلك في مقاربتين تاريخية ونشوئية. إنّ البحث النشوئي وحده يمكنه أن يذكرنا بأنّ الدولة وكل ما ينبع منها اختراع تاريخي، وصناعة تاريخية، وبأننا نحن أنفسنا اختراعات دولة، وبأنّ أذهاننا اختراعات دولة. ويقول إنّ ثمة منطقًا نوعيًا خاصًا بالدولة، وخاصًا بتشغيل الحقل البيروقراطي، "يمكن أن يكون في مبدأ الارتهان وأصله أو الاستقلال إزاء المصالح الخارجية، أو العلاقات والترابطات مع مصالح خارجية، من دون أن يكون قد عزم عليها أو أرادها أحد".
يعود بورديو في درس 17 كانون الثاني/ يناير 1991 إلى معنيي "دولة" بين الدولة الإدارة، وهي جملة من إدارات الوزارات، وهي شكل حكم، والدولة الإقليم القومي والمواطنون جميعًا. ويصف النقاشات بين المؤرخين لمعرفة إذا كانت الأمّة تصنع الدولة، أو الدولة تصنع الأمّة، بأنها مهمة سياسيًا لكن تافهة علميًّا. ويبحث بورديو هنا في نمطين وأنموذجين لنشوء الدولة، نمط نوربرت إلياس ونمط تشارلز تيلّي.
يستمر في درس 24 كانون الثاني/ يناير 1991 باحثًا في أنماط نشوءِ الدولة ونماذجه، دارسًا نمطًا وأنموذجًا لفيليب كورّيغان وديريك ساير اللذين يعارضان نظرية الدولة بوصفها أداة قسر. فالماركسية والنظريات التي يمكن أن نضعها في جانب الاقتصادوية مثل نظريات تيلّي وإلياس تُقلّص في رأي كورّيغان وساير الدولة فتصبح أداة قمع، وتحجِّمها فتجعل منها انعكاسًا للسلطان الاقتصادي.
يتابع في درس 31 كانون الثاني/ يناير 1991 الحديث عن نمط كورّيغان وساير في نشوء الدولة، متناولًا الصلة بين الوحدة القومية والتكامل الاجتماعي والثقافة، أو مسألة الصلة بين ثقافة وأمّة، ثقافة وقومية على نحوٍ يصل بينها ويربط بعضها ببعض، كما في حالتي إنكلترا واليابان. يقول بورديو في هذا الدرس: "تكونت الدول الأمم وفق مسارات من النمط ذاته، بضرب من البناء المصطنع لثقافة مصطنعة. ثقافة المنطلق التي تستطيع بعض الدول الأمم أن تنهل منها لبناء هذا المصنوع، هي ثقافة دينية: ذلك حال إسرائيل والبلدان العربية. كيف السبيل إلى صناعة ثقافة قومية، ثقافة بالمعنى الرسمي للكلمة، عندما تكون مكونات هذه الثقافة دينية أساسًا؟ كيف السبيل إلى صناعة ثقافة ذات ادعاء كلي كوني جامع، مع خصوصية تقليد تاريخي أو سنن دينية؟"
يتوزع درس 7 شباط/ فبراير 1991 إلى محاور عدة، هي: الأسس النظرية لتحليل سلطان الدولة؛ والسلطان الرمزي: موازين القوى وموازين المعنى؛ والدولة بوصفها منتجًا لمبادئ الترتيب والتصنيف؛ ومفعول الاعتقاد والبنى المعرفية؛ ومفعول التماسك في النظم الرمزية للدولة؛ وبناء بنته الدولة: توزيع الزمن المدرسي؛ إنتاج اليقينيات الأولية أو المعتقد السائد.
في درس 14 شباط/ فبراير 1991، يعالج بورديو مسائل مختلفة، كمسألة علم الاجتماع من حيث هو علم باطني ذو مظهر ظاهري، ومسألة الدولة التي تصنع بنية النظام الاجتماعي، يقول إنّ الدولة ليست هيئة تضفي المشروعية أو الشرعية على نظام قائم بفعل الدعاية السياسية، وليست هيئة تقول النظام الاجتماعي هو على هذا النحو، وهكذا ينبغي أن يكون، وليست مجرد إضفاء صفة الكلي الجامع على المصلحة الخاصة التي تعود إلى الغالبين المسيطرين الذين يتوصلون إلى فرض أنفسهم على المغلوبين والمقهورين، بل هي هيئة تنشئ العالم الاجتماعي وفق بنى محددة. كما يعالج مسألة المعتقد والصراطية والبدعة، وتحويل الخاص إلى عمومي التمثّل بظهور الدولة الحديثة في أوروبا.
يفصّل بورديو في درس 21 شباط/ فبراير 1991 خصوصية فرادة الدول الحديثة في الغرب: وجود مجتمع إقطاعي قوي يواجه المَلِك ويضطره إلى إنشاء إدارة، ثمّ حق ملكية أو قانون تملّك أفضل من التقليد العثماني بفضل قوة القانون. ويسهب بورديو في الحديث عن منطق نشوء الدولة وانبثاقها (رأس المال الرمزي)، ومراحل مسيرة تركّز رأس المال، والدولة السلالية، والدولة من حيث هي سلطان فوق كل سلطان، وتركز حيازة أنواع رؤوس الأموال ونزعها مثال رأس مال القوة المادية الفيزيقية، وتكوُّن رأس مال اقتصادي مركزي وبناء حيّزٍ اقتصادي مستقل.
يتطرق بورديو في درس 7 آذار/ مارس 1991 إلى مسار تركّز أنواع رأس المال، إذ يبدي كورّيغان وساير فكرة مفادها أنّ إنشاء الدولة اصطدم بممانعات ومقاومات عظيمة لمَا تتم، "فلا تزال ثمة اليوم أشكال أو صور عاميات، كما أنّ تكوين أو إنشاء دولة أوروبية عابرة للقوميات، يثير ممانعات بينها عدد يتعلق بالاقتطاعات. ولا بد للسياسيين من القيام بعمل مزدوج لمواجهة هذه الممانعات والتصدي لها". ويتناول أيضًا توحيد السوق الحقوقية، وتكوُّن المصلحة في الكلي الجامع، وتركُّز رأس المال الثقافي والبناء القومي، والفارق بين نبالة بالطبيعة ونبالة الدولة.
قوام درس 14 آذار/ مارس 1991 البحث في وجه الدولة المزدوج: السيطرة والدمج؛ وحق الأرض وحق الدم. يقول بورديو: "حين نقول إنّ نشوء الدولة يترافق بتكوُّنِ إقليمٍ موحد، فإننا لا نرى بالكامل ما تشتمل عليه فكرة الإقليم، ولا نرى ما هو المضمر في الواقعة التي تجعل أنّ مبدأ تكون الأقوام والجماعات ما عاد يقوم على العلاقات الشخصية، أو ما يمكن أن نسميه حق الدم، أو الرباط الشخصي بين الرئيس والرعايا، وإنما حق المكان (حق الأرض)، أو الانتماء إلى الإقليم ذاته". ويتابع باحثًا في توحيد سوق الأرزاق الرمزية، وفي التناظر بين الحقلين الديني والثقافي.
يضمّن بورديو درس 3 تشرين الأول/ أكتوبر 1991 كلامًا نظريًا يعالج فيه الدولة السلالية من أكثر من محور، أحدها أنموذج تحولات هذه الدولة، وفي آخر فكرة إستراتيجيات إعادة الإنتاج، وفكرة منظومة إستراتيجيات التكاثر وإعادة الإنتاج، وتمظهرات الدولة السلالية في ضوء إستراتيجيات التكاثر وإعادة الإنتاج. وفي هذا الإطار ينحت بورديو مصطلح "سوسيوديسيه" على وزن مصطلح "ثيوديسيه" من لايبنتز. فكما هذه تبرير الألوهية والدفاع عن الربوبية، فسوسيوديسيه تبرير أن تكون الأشياء على ما هي عليه. كما يقدّم بحثًا مسهبًا لمفهوم دار/ أو بيت الملك، ثمّ يتناول المنطق القانوني والمنطق العملي للدولة السلالية.
في درس 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1991، يسبر بورديو أغوار أنموذج الدار/ أو البيت ووقوفه ضد الغائية التاريخية؛ ورهانات البحث التاريخي عن الدولة؛ وتناقضات الدولة السلالية الملكية.
يبحث بورديو في درس 24 تشرين أول/ أكتوبر 1991، مسألة إعادة الإنتاج بالعائلة وإعادة الإنتاج بالدولة. يقول: "الفرضية التي كانت حاضرة في ذهني هي أنّ أحد المحركات الرئيسة للتغييرات التي أفضت إلى الدولة الحديثة هو هذا التناحر بين مبدأين مختلفين لإعادة الإنتاج: أحدهما هو العائلة والثاني هو الكفاءة الثقافية أو المدرسية. وهذان المبدآن لا يزالان قيد العمل إلى يومنا هذا، فلا يزال التوتر بين الورثة والقادمين الجدد يواصل التطواف داخل الدولة". ويتحدث عن نمطين متنازعين من إعادة الإنتاج، أمّا الملك فطرف ثالث، أي هو بمعنى ما فوق التعارض بين العُمريين والورثة، ويستطيع اغتنام تناحرهم واستخدامه ليحكم ويسود على طريقة فرِّق تسد.
يقدم درس 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1991 ثلاثة أمثلة على الفساد المؤسسي في الصين: السلطان الملتبس للبيروقراطيين الفرعيين؛ والأنقياء الخلص؛ ولعبٌ مزدوج وأنا مزدوج. ينهي درسه بنشوء الحيّز البيروقراطي واختراع العمومي. في هذا يقول: "الدولة تقابل العائلة وتضادها في ثلاث نقاط رئيسة. فهي أولًا تستبدل الولاءات العائلية الأولية بولاءات صورية رسمية وتدين المحسوبية. وهي تستبدل ثانيًا الخلافة المباشرة العائلية بإعادة إنتاجٍ من نمط مدرسي. وتستبدل ثالثًا تسمية أو تعيين الرياس والرياس الفرعيين لأنفسهم، أو تسميتهم من الهيئات المحلية، بتسمية تعيين يصدر عن المركز".
في درس 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1991، يتناول بورديو بالتفصيل مسائل بناء الجمهورية وبناء الأمّة، وتكوّن العمومي في ضوء معاهدة قانون دستوري إنكليزي، واستخدام الأختام الملكية. يقول: "يمكننا توصيف العبور من الإقطاعية إلى الحكم المطلق كالتوصل إلى درجة أعلى من درجات من الانتقال إلى الكلي الجامع؛ إذًا، فإنه تقدم في مجال الكلي الجامع. لكن هذا التقدم يترافق مع بناء الأمّة، في البنى الاجتماعية الموضوعية وفي العقول والأذهان في آنٍ".
في درس 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1991، يتعمق بورديو في دراسة التضاد: عمومي/ خصوصي، وإشكالية تحوّل الخصوصي إلى عمومي في مسار غير طولي، ونشوء ما وراء حقل السلطان من تمايز وانفصال بين السلطات الملكية السلالية والبيروقراطية، ووقوف المبدأ الملكي العائلي في وجه المبدأ القانوني من خلال السرير العدلي. كما يعرض الصراعات القانونية من حيث هي صراعات رمزية من أجل السلطان. ويعرض ثلاثة تناقضات يقع فيها القانونيون: لا يستطيعون تبرير الجبروت الملكي من دون الحد منه عمليًا؛ أنهم إلى جهة الملك، ولكنهم ذوو طبيعة نبيلة أيضًا؛ يحوزون كفاءة تتضمن اختصاصًا، وتتضمن من ثمّ حدودًا ونزاع حدود.
تضمن درس 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1991 مقاربة بورديو التاريخ بوصفه رهان صراعات، ومقاربته الحقل القانوني مقاربة تاريخية، ومقاربته الدولة بوصفها محكمة وهمية، ورأس المال القانوني بوصفه رأس مال لغويًا وتحكمًا عمليًا، ومقاربة القانونيين الكنيسة من حيث هي استقلالية حرفة، ومقاربة الإصلاح الديني والجانسينية والقانونية، ومقاربة الجمهور من حيث هو حقيقة عيانية لا سابق لها ولا تزال قيد التحقق.
في درس 5 كانون الأول/ ديسمبر 1991، حدّث بورديو تلاميذه عن برنامجه من أجل تاريخ اجتماعي للأفكار السياسية والدولة، وعن أهمية التجرد، وعلاقة القانونيين بالكلي الجامع، والدولة والأمّة، ومقاربته الدولة بوصفها ديانة مدنية، ورؤيته إلى القومية والمواطنية من زاوية التضاد بين النمط الفرنسي والنمط الألماني. وختم الدرس بتبيان صراعات المصالح وصراعات اللاشعور في السجال السياسي.
وأسهب بورديو في درس 12 كانون الأول/ ديسمبر 1991 في كلامه عن بناء الحيِّز السياسي من خلال اللعبة البرلمانية في الدولة، وعن دور الإعلام المرئي في اللعبة السياسية الجديدة، وجسر العبور من الدولة الورقية إلى الدولة العيانية. كما تطرق إلى مسألة تدجين المقهورين من زاوية جدلية الانضباط والإحسان، وختم بما يراه من البعد النظري لبناء الدولة.